"للبيت رب يحميه" وابستمولوجيا الهزيمة في الفكر العربي…

Photo

سؤال يمكنك أن ننطلق منه: لماذا باتت الشعوب العربية تتنازعها الأهواء بين القوى الإقليمية بين من انبهر بمشروع تركيا القومي وبين هائم في مشروع إيران التوسعي؟

الإجابة ربما هي خيبات نفسية نتيجة انهزامية سياسية غير مسبوقة منذ عقود يعيشها العرب أين تستند ثقافة الانبطاح والاستسلام التي تعصف بنا اليوم أمام القضايا الرمزية والمصيرية وتجعلنا عاجزين عن فعل أي شيء، إلى موروث متراكم تاريخيا منذ زمن الجاهلية يكرس التسليم بكل مكتسب معنوي رمزي مقدس دون أي مقاومة في مقابل الاستماتة في الدفاع عن القضايا المادية والمكتسبات الفردية للأفراد والزعامات والقبائل.

من بذور هذه الثقافة الانهزامية العميقة في المخيال الشعبي والتي تسربت الى الخطاب الديني الإسلامي بكل حرفية وتوظيف سلبي، هي مقولة عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم في مواجهته لحملة أبرهة الحبشي لهدم الكعبة وسلب المعنى الديني والرمزي لعرب الجاهلية وهو الكعبة وتحويلها إلى اليمن في كنيسة القليس.

فالكلمة الشهيرة لعبد المطلب امام قائد جيش الحبشة على مشارف مكة "للبيت رب يحميه" ليست كما يروج كثيرون هي مجرد مقولة دينية توحيدية إيمانية غير منسجمة مع بيئتها الجاهلية الوثنية وهي بذرة إبراهيمية لازالت صالحة للزراعة في قريش... ابدا، بل هي مقولة مادية جشعة وغير معنية بالدفاع عن اي مكتسب معنوي رمزي دلالي مقدس يجتمع حوله العرب وهي "مكّة" رغم دورها الديني والاقتصادي والثقافي والسياسي في الجزيرة العربية وحتى على المستوى الدولي في ذلك العصر.

في المقابل كيف نفسر وجود عقل عربي يتصف بالاستماتة واستحضار كل معاني الشرف والرجولة والحرب للدفاع حد الموت عن اي مكسب مادي قد يسلبه أبرهة لقريش وهي النياق والابل في الوقت الذي يسلم فيه الكعبة لمصيرها؟؟

لقد قال عبد المطلب لابرهة وهو يفاوضه " إذا كنت تريد البيت فهو أمامك وان كنت تريد الإبل فالحرب دونك".. إذا، الحرب من أجل الإبل وليس من أجل مكة ...الحرب من أجل المكسب المادي الصرف وليس من أجل الرمزيات.. وهو ما يكشف في تقديري أن الفكر العربي الجاهلي رغم اكتناز شعره بالرمز والدلالة والقيم والشرف خطابيا كان من الناحية السياسية فكرا ماديا فردانيا أنانيا ليس غير.

وإن تنقيبا بسيطا في أيام العرب الفكر يكشف التاريخ الجاهلي عن عقل وثقافة مادية متينة تحتاج إلى الدرس امام سطوة الخطاب التمجيدي لمعاني الشرف والرمز والقيم التي صنعها الشعر وتناقلتها الروايات.. فحرب البسوس مثلا بين قبيلتي تغلب وبكر تعلمنا في المرويات انها حرب من أجل ناقة بينما قتل جسّاس بن مرة كليبا بن ربيعة من أجل أن كليبا تعدى حدوده في أرض العرب ومنع الماء عن قبيلة بكر باعتباره قيمة حياتية ورمزية يستحق أن تقوم من أجله الحرب …

حرب داحس والغبراء بين قبيلتي عبس وذبيان ترسّخ المرويات في المخيال الشعبي العربي انها حرب من أجل سباق بين فرسين بينما سبب الحرب هو التنافس بين القبيلتين على رمزية التحالف السياسي والربح الاقتصادي مع مملكة الحيرة وحماية الحجاج العابرين عبر نجد..

ما أردت أن اقوله ان هناك منذ القديم بذرة فكر عربي مادي جاف غير معني بالدفاع عن الرمزيات بقدر القدرة الفائقة على المغامرة وخوض الحروب الطويلة من أجل ناقة البسوس أو سباق بين فرسين.. وأكثر من هذا يقدّم الدفاع عن الإبل عن الدفاع عن الكعبة وان لزم الأمر التخلي عنها لأن لها ربا يحميها وكأن الإبل ليس لها رب ايضا.

لا بد من تفكيك ابستمولوجيا الانهزامية والانبطاح في الفكر العربي من العصر الجاهلي إلى اليوم والبحث المطول عن إجابة لسؤال معقّد جدا: لماذا يتحرك العرب بقوة للدفاع عن الذات الرئاسية او الملكية في مقابل الصمت المخزي أمام كل قضية رمزية مثل "القدس. الشعوب. الإنسان العربي. التاريخ والجغرافيا "...فالقدس اليوم وعلى سبيل المثال تنسحب عليها مقولة أبي طالب التي كثيرا ما نسمعها حتى في الخطب الدينية "للقدس رب يحميها"

لماذا تنتفض ديبلوماسيات الممالك والدول العربية من أجل مساس بسيارة أمير في شوارع باريس او لندن في مقابل عدم الاكتراث النهائي بسرقة خمسة آلاف قطعة أثرية من العراق او تتحرك الديبلوماسيات ثقافيا من اجل مخطوطات قديمة لابن رشد وابن طفيل والكندي والبيروني وابن خلدون الغزالي أو حتى التحرك القوي ضد حفر نفق تحت بيت المقدس... لماذا لا يستوعب العقل العربي انه في الدفاع عن الرمزيات والمكاسب المعنوية حفاظ قوي جدا عن كل مكسب مادي أكثر حتى من مجرد الدفاع عن المكاسب المادية لوحدها والتخلي الطوعي عن اي مكسب رمزي.

انه سؤال مقلق إلى أبعد الحدود.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات