المنصف المرزوقي : العائد من بعيد قد تنكره الذاكرة

Photo

تنويه : هذا المقال هو الثالث في سلسلة من المقالات تسعى الى فهم نتائج الانتخابات الرئاسية في دورها الأول .

غادر الرئيس الأسبق السيد منصف المرزوقي سدة الرئاسة يوم 30 ديسمبر 2014 على اثر خسارته السباق الانتخابي الذي دار في شهر أكتوبر من ذات السنة . سلم مقاليد الحكم لأول رئيس منتخب بعد الثورة متنازلا عن كرسي الرئاسة في سابقة نادرة في العالم العربي احتراما للدستور و لصندوق الاقتراع .

و لكن بعيدا عن ذلك الانضباط الدستوري لم يكن الأمر هينا على الرئيس خصوصا و هو الذي كان يعتقد أنه الأوفى لروح الثورة و الأقرب الى نبض الشعب من خصمه الباجي قائد السبسي . يستحضر نضالاته الحقوقية قبل الثورة و تمر أمامه مئات الصور وهو يزور المهمشين و الفقراء أثناء الكوارث و الجوائح الطبيعية التي عرفتها البلاد بعد الثورة ، يحمل على كتفيه جثامين شهداء المؤسستين الأمنية و العسكرية ممن سقطوا في ساحة الوغى و يستقبل الناس البسطاء في قصره…

غير أن ذلك لم يشفع له و خرج من « الباب الصغير » كان كسم الخياط ضيقا خانقا …لا شك أن تلك الخصال لم تكن الوصفة السياسية الفضلى حتى يجدد له الشعب الثقة و يمنحه فرصة البقاء في قصر قرطاج … عبر الرئيس في أوساط مقربة منه أن السياسة لا تخلو من نكران و مكر و جحود. كان الرئيس يخيل اليه أنه لم يسلم السلطة الى خصم سياسي أفرزته صناديق الاقتراع بل الى « عدو سياسي » انقض على الثورة بعد أن أعادته الدولة العميقة التي عجز عن تفكيكها …

سلم السيد المنصف المرزوقي السلطة غير أنه لم يستسلم بيسر لتك الحقيقة المؤلمة التي بانت في أيام قليلة بعد خروجه من القصر : عودة تمجيد صور الرئيس الباجي ، تبجح "أعداء الثورة " بعودتهم الى وسائل أعلام عديدة ، اقالات بالجمل لبعض ممن تولوا مسؤوليات في عهد الترويكا و مضايقات لمن أبدى تعاطفا معها…

كان يحتاج الى متسع من الوقت حتى يستوعب كل هذا الذي يحدث . ثمة ما يشبه الذهول السياسي الذي خطفه مدة ليست بالهينة. كانت الرسالة الناخبين واضحة و صداها يجلجل: لقد عاقبوا من جاءت بهم الثورة بكثير من الجرأة و القسوة و ازاحوا الترويكا و ما حولها : حزب الرئيس أي حزب المؤتمر من أجل الجمهورية ، النهضة و التكتل من أجل الحرية و العمل و بعض الشخصيات المستقلة .

غادر الرئيس قصر قرطاج و اتخذ لاحقا من أحدى الفيلات بحي راق بتونس العاصمة مركزا للبحوث و الدراسات على أمل أن يكون ورشة لإنتاج الرؤى و المقترحات وحتى يساعده فيما بعد على تجديد الحزب …

واضب رفيقه و مدير حملته عدنان منصر على تنظيم بعض اللقاءات في شكل « ثانك تانك » خاضت في قضايا وطنية وإقليمية و دولية . كانت الاجتماعات محدودة وشبه مغلقة عجزت فيما بعد عن خلق دينامية حولها وقد يكون الحصار الاعلامي على أنشطة الرئيس السابق سببا في ذلك الانقطاع و الغيبة التي يتوارى بعيدا عن انظار الناس بمن فيهم مناصروه ..

لكأن أمرا ما صدر بعزله و دفنه سياسيا وهو حي.

لم يفعل الرئيس شيئا ذا بال للتحرر من تلك « الإقامة الجبرية » التي « اختارها» و ربما جازف في البداية غير أنه تعرضه من حين الى آخر الى مضايقات بلغت حد الإهانة وهي التي لم تلق تنديدا صريحا من الطبقة السياسية رغم خطورة ما ارتكب في حقه من مس بالحقوق الأساسية التي نص عليها الدستور :

كحرية التنقل و غيره، لم يزده كل هذا الا انسحابا .و مع ذلك لا أزال اعتقد أن الرئيس الأسبق استسلم و لم يقاوم مشاعر الرفض وحتى « الكراهية » التي حاصرته و آثر الهروب الى الأمام و عدم المواجهة : فلقد سافر معرفا بالثورة التونسية من حين الى آخر ضمن ديبلوماسية سياحية من خارج الأجهزة الرسمية .

فحصل الرئيس على العديد من الجوائز و الأوسمة و كان محل ترحاب أينما حل في الدول التي زارها : اليابان ، كوريا الخ … .

غاب السيد المصف المرزوقي عن المشهد السياسي الوطني رغم ما عرفته البلاد من تجاذبات و أحداث عظام مكتفيا من حين الى آخر ببعض التصريحات النادرة . أما ما كان يكتبه على صفه الفايسبوك التي عبر فيها عن مواقف معينة مما يجري في البلاد فلم تردد صدى . هذا" الحضور عن بعد " من خلال البيانات .لم يكن كافيا خصوصا وان منافسيه أو البعض منهم على الأقل قد اعتمدوا على استراتيجيات أخرى هي « الاتصال المباشر » و لكن وفق تقنيات جديدة و مقاربات غير مسبوقة مستوحاة من الجغرافيا التسويقية الميدانية .

كان نبيل القروي من خلال جمعيته الخيرية و بقطع النظر عن الاستقامة الأخلاقية للرجل فقد خاط نسيجا دقيقا للبلد فلقد "خيط البلاد غرزة غرزة" أما السيد قيس سعيد فلقد تحلق حوله مجموعات افتراضية مغلقة من الشباب هي أقرب الى « الطوائف الافتراضية» و اتخذته « مرشدا روحيا و علميا » كانت أولى الحلقات التي آمنت به عند اعتصام القصبة و لكن حين تعمقت تلك الخيبة لما « انحرف التأسيسي» عن احلامهم و تبنى نظاما سياسيا مركزيا يعتقدون ان الدولة ستتغول من خلاله لا محالة فتلتهم الدولة المجتمع عادت اليه تستفتيه في أمر سبل المقاومة.

اعتمدت هذه المجموعات الافتراضية فيما بعد على التشبيك الافتراضي و الانتشار من خلال الفضاء الأزرق الذي منحته لهم الوسائط الاتصالية الجديدة . على خلاف منهج الانتشار هذا وفي الضفة المقابلة كانت جمعية خليل تلك و جيشها المؤلف من السماسرة و الوسطاء تعمد الى تشبيك ترابي يرعاه أفراد محليون ينتمون الى تلك المداشر و القرى و الأحياء. .

كان منافسو المنصف المرزوقي ( فيما بعد) يخططون منذ أكثر من ثلاث سنوات استعدادا للمنازلة الكبرى في حين كان الرجل قد قطع صلته بالسياسة بهذا المعنى .

خسر السيد المنصف المرزوقي اثناء ذلك ( 2014- 2019) حزبا كان الى حد ما موحدا رغم بعض الاستقالات المبكرة على غرار محمد عبو الذي أسس حزبه لاحقا : التيار اتلديموقراطي و الهادي عباس وعبد العزيز القطي و عياض اللومي الذين دهب بعضهم الى أحزاب منافسة و فضل البعض الآخر عدم التحزب …

غير أن الحزب سيشهد موجة أخرى من الاستقالات عمد اليها عدد من المؤسسين الأوائل و رفاق درب حتى قبل الثورة من أمثال عبد الوهاب معطر و سمير بن عمر و غيرهم …. ظل هؤلاء تحت لافتة حزب المؤتمر و ذهب هو و بعض رفاقه من أمثال عدنان منصر و الكحلاوي الى تأسيس حزب " جديد " حراك الإرادة …لا ندري ما حقيقة كل تلك الصراعات و الاستقالات و خلفياتها وهي التي أضرت بالجميع خصوصا تلك الاستقالة الجماعية التي انسحب فيها أكثر من 80 منخرطا قي أواسط سبتمبر 2018…

كانت بعض الانتقادات توجه من حين الى آخر الى بعض العناصر القيادية التي تتهم بطردها لكفاءات و تعمق ثقافة الولاء و المحسوبية وهي اتهامات رد عليها هؤلاء بكل حدة متهمين مروجيها باضعاف الحزب و العمل لفائدة الغير , و تتالت الانسحابات بشكل درامي تحولت فيه الأحزاب المتناسلة من المؤتمر الى « أحزاب التاكسي ».

حتى ان البعض منها لم يتقدم الى الانتخابات البلدية و اا حتى التشريعية و الرئاسية الحاليتين . حتى قدم السيدان عدنان منصر و طارق الكحلاوي استقالتيهما من حزب الحراك في سبتمبر 2018مصحوبة تصريحات خطيرة اتهمت الرئيس الأسبق بالاصطفاف وراء محاور اقليمية الخ .., اكتفى السيد المنصف المرزوقي بمعالجة تلك العلل بتدوينات شعرية على صفحته الفايسبوكية.

الخسارة التي مني بها السيد المنصف المرزوقي و التي كانت قاسية و « مهينة» تعود في اعتقادي الى جملة من العوامل التالية:

– عدم استعداده لللنتخبات بما يكفي ولم ياخذها مأخذ الجد اذ اكتفى بالالتحاق بالسباق الانتخابي في الثواني الأخيرة . فلم يثر حوله أي « ضجيج » انتخابي و لم يفلح في جلب الانتباه وظل مثله مثل أي مترشح آخر يدخل السباق لأول مرة مغامرا و كأنه بلا تاريخ و لا ذاكرة.

– عودته المتأخرة الى المشهد السياسي بعد غيبة طويلة كاد فيها أن ينسى و لقد رأينا كيف أن رئيس حكومته حمادي الجبالي كان يسأل الناس اثناء حملته الانتخابية في القيروان مثلا ان كانوا قد عرفوه؟ . فيجيب البعض صدقا: لا نعرفك . من انت؟.

هذا الجيل الجديد الذي دخل التجربة الانتخابية : مليون ونصف ناخب كان جلهم أحداثا حين غادر المرزوقي الحكم وهم لا يذكرون له فضلا او خصلة لأنه لم يعايشوا فترة حكمه … كان البعض من هؤلاء لما تولى المرزوقي الرئاسة المؤتة لم يبلغ بعد 12سنة … هذا الجيل هو الذي انجذب الى قيس سعيد الذي رافق الشباب من خلال اللقاءات العديدة التي جمعتهم به او من خلال تلك الشبكات التي التفت حوله مرشدا و موجها بيداغوجيا.

– عجز السيد المنصف المرزوقي عن استثمار الذاكرة و الصيت اللتين حظي بهما لدى فئات اجتماعية واسعة . بل حدث العكس في مواطن عديدة حيث تم اهدار ذلك الرأسمال و تبديده ولم يكن ذلك جراء الأخطاء فحسب بل النسيان و الإهمال. لم تعد ذاكرة التونسيين قادرة على تخزين هذا الكم الهائل من السياسيين : رؤساء ووزراء و نوابا الخ . شعر العديد من الناخبين ان المرزوقي انه "رئيس انتخابات" فقط يطل عليهم من انتخابات الى أخرى . لم يتعهد المرزوقي الذاكرة و يعيد احياءها.

– لم يفلح السيد المنصف المرزوقي في محو العديد من الأخطاء التي نسبت اليه بقطع النظر عن صدقها . و لم تستطع الاطلالات الإعلامية العديدة اثناء الحملة الانتخابية تبديد تلك الشكوك خصوصا تلك التي تعلقت بلقائه ببعض شيوخ السلفية و مؤتمر أصدقاء سوريا ، تسليم رئيس الحكومة الليبية بغدادي الحمودي الخ فالإشاعة اذا انتشرت يصعب تبديدها ان لها جلدة تستعيرها من التمساح ..خصوصا في ظل اعلام عمومي ظل يشاكسه و يتصيد عثراته .

– يبدو أن الوفاء للثورة ومناهضة النظام القديم و معاداة الدولة العميقة ذلك الرأسمال الذي كاد أن يحتكره لنفسه وحده خلال انتخابات 2014 قد نافسه فيه الكثير هذه المرة حتى من داخل الفضاء الذي يقف عليه : نذكر منهم عبد الفتاح مورو، سيف الدين مخلوف محمد عبو و غيرهم. عجز الرئيس المرزوقي ان يتفرد مجددا برأسمال الثورة و ان يكون ناطقا باسمها فلقد سحب رفاق الامس منه هذا الرأسمال ان وفرة العرض السياسي داخل العائلة الواحدة التي انتمى اليها المرزوقي انهت احتكار الوفاء للثورة و الالتزام باستحقاقاتها .

لم يعد السيد المنصف المرزوقي قادرا على ادعاء ذلك أمام عدة منافسين حمادي الجبالي ، محمد عبو ، سيف مخلوف فضلا عن بعض مترشحي اليسار او حتى غيرهم بل ان البعض بدا اكثر جرأة و مجازفة منه و قد يكون قد. استحوذ على قاعدته. ( سفيان مخلوف، الصافي سعيد و حتى لطفي المرايحي …) و لعل ابرزهم قيس سعيد.

لم يكن الرئيس المرزوقي مرشح حزبه حراك تونس الإرادة بل مرشح تحالف انتخابي لا أحد يعرف له رموزا آو خلفية ( تونس أخرى ) وفي اعتقادي انه لم يوفق في التحرك على الأرض و ظلت خطواته بطيئة مفصولة عن المحليات و لا تمتلك رموزا محلية تثبت أقادمها كانوا هواة يفتقدون لذلك الالتزام النضالي الذي تحلى به مناصرو سعيد مثلا.

– ارتكابه أخطاء اتصالية رافقت حملته و خصوصا موقفه من « شعب النهضة » مما نفر حتى بعض النهضويين منه و ذهابهم الى مرشحهم عبد الفتاح مورو و بعض المحسوبين على العائلة الاسلامية ان ترشح مورو قد سحب من قاعدته فئات واسعة يبدو انها صنعت الفارق في انتخابات 2014 و لذلك عامل جاهدا على استمالته حتى ولو دخل « بين الظفر و اللحمة الحية » بشكل مؤلم .

– لم يجدد السيد المنصف المرزوقي بعد غيبة دامت قرابة خمس سنوات خطابه و ظلت استعارته و نبرته ثابته في حين كان الناس و الشباب تحديدا يرغبون في عرض جديد مغاير غير أنه لم يتم الاستماع اليه و فقد كان السيد المرزوقي من بين من ملّتهم تلك الفئات الجامحة و المدبرة على كل حكام الماضي حتى من كان منهم « منصفا ». كانوا جميعا بضاعة مستهلكة في حين كان الشباب يبحث عن عرض جديد لم يجرب من قبل و لم يدخل السلطة .

– لم يراهن السيد المنصف المرزوقي على جمهور بعينه بل ظل خطابه متجها الى عموم الناخبين فلم يرسم ملامح ناخبيه : اصولهم الاجتماعية ، أوضاعهم المادية ، تطلعاتهم ، فئاتهم العمرية حاجاتهم … فالتوجه الى عموم الموطنين في هلامية باهتة و عدم تخصيص فئات محددة كل ذلك جعل صوته يضيع في الزحام الانتخابي . لا احد كان معنيا بتلقيه…

– شعب النهضة ، دفتر خانة و العصفور النادر :

ظل السيد المرزوقي يمني النفس بأن تعيره النهضة قواعدها الانتخابية كأصوات يستفرد بها و لم يصدق أنها تفاوض في السر الشاهد أو غيره . لذلك ظل يغازلهم الى آخر لحظة الى ان قدّمت النهضة عصفورها النادر فلم يكن بامكانه ان يعوض هذه الكتلة الانتخابية ويتدارك أمره في الأمتار الأخيرة .

عاد السيد المرزوقي من بعيد… كأنه بعث في ساعة لا تتسع لوجوده فلم يستطع قراءة صحائفه على جمهور واسع كانوا قد اعرضوا عنه ينصتون الى صحائف أخرى هي أكثر اغراء و أشد غواية . .

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات