اليسار التونسي والدور الخفي في سباق قرطاج

Photo

ليس هذا تقريظًا لليسار التونسي ولا ذمًا، لكن محاولة لتتبع حالة من حالات قوة النفوذ دون الحاجة إلى العدد، فاليسار التونسي على قلة عدده قوي بما يكفي ليكون صانع الرؤساء في تونس، ولكن أي رؤساء صنع اليسار؟ يفتح هذا بابًا لمقارنة حالة اليسار بحالة الإسلاميين الذين وإن جمعوا الجمهور العريض إلا أنهم يعيشون بعد خارج السلطة ويجدون أنفسهم دومًا في حالة دفاع لا يجدي معها الاستيلاء على صندوق الاقتراع.

كما ينكشف لنا من المقارنة وضع تاريخي طويل أدى إلى عدم توافق قوة التأثير السياسي مع الحجم الجماهيري، حيث يتبين أيضًا أن هناك وراء ذلك اختلافًا في الأساليب والأخلاق السياسية منعت الديمقراطية من التقدم في أرض العرب.

السكن في مفاصل الدولة

واجه اليسار التونسي بكل فصائله وتوجهاته الفكرية والأيديولوجية الدولة في السبعينيات وانكسر في الأزمة النقابية سنة 1978، فتكونت لديه قناعة أن تخريب النظام من خارجه ليست مستطاعة ولذلك غير التكتيك السياسي واتخذ سبيل التسرب إلى مفاصل الإدارة، فلم يمر عقد الثمانينيات حتى كان اليسار هو المتحكم الفعلي في التعليم وإدارة التعليم بكل مراحله والثقافة ومواقع نفوذ أخرى كثيرة منها الإعلام، واتخذ النقابة درعًا للتفاوض من موقع فعال يرفع النسق الاحتجاجي ويخفضه في كل المحطات السياسية التي مر بها البلد ويقبض بالنقابي مكاسب سياسية.

فلما انقلب بن علي على بورقيبة سنة 1987 كان من الهشاشة السياسية وفقدان البرنامج والخطة بحيث وقع في حضن اليسار يرتب له دولته الجديدة، فحصل نوع من الاتفاق غير المكتوب (فيما نعلم) على أن يحكم بن علي في الظاهر وينفذ ما يريده اليسار في الباطن، فكانت سياسة تجفيف المنابع التي قادها أحد أكبر زعماء اليسار التونسي (محمد الشرفي) في التعليم.

وجد بن علي ضالته في وزراء اليسار، فقد استقر له الحكم وأبعد أكبر خصومه (حزب النهضة) الذي ربح انتخابات 1989 رغم أنه لم يترشح فيها بل ساند أسماء مستقلة، ويمكن القول بعد أن انقضت حقبة بن علي إنه ما كان ليحكم لولا الطاقم الوزاري اليساري الذي قفز من الجامعة إلى الإدارة ليحكم قبضته على صناعة التعليم والثقافة ويهيئ لدولة بن علي باقتدار، فقد وجد طرفا المعادلة نفسيهما في وضع تعاون ضد خصم لدود.

كان اليسار يتزعم المعارضة ولكنه كان يدير البلد فعلاً من وراء واجهة حزب التجمع الذي ضم أيضًا يسارًا كثيرًا التحق به لمحاربة الظلامية الدينية، أما التجمعيون غير اليسار فكان همهم الغنائم المادية، وكان لهم ما يريدون.

لم يكن هم اليسار بناء الديمقراطية مثلهم مثل بن علي لذلك استقرت الدولة ربع قرن غنم فيها الطرفان ما يريدان (بن علي نهب المال واليسار دمر الإسلاميين)، ونذكر هنا بواقعة دالة كشفت هذا التحالف الغريب، ففي نقاش تليفزيوني بين ناجي جلول وأحد التجمعيين قال السيد جلول (وهو جامعي مؤرخ يساري) للتجمعي" "لم تكن لكم ألسنة تتكلمون بها، كنا نحن من يعبر عنكم، فأنتم خرس".

اليسار صنع الباجي قائد السبسي

بعد الثورة وجد اليسار نفسه مرة ثانية مقصيًا بحكم الصندوق، فلم ينل من المجلس التأسيسي إلا النزر اليسير وكان تحالف الإسلاميين مع حزبين آخرين غير يساريين إيذانًا بأفول اليسار بإبعاده عن دائرة الحكم، فعاد للتجمع تحت يافطة حزب نداء تونس، وهو الذي أوحى للباجي بتزعم معارضة الترويكا الحاكمة.

كانت القيادة المركزية الصلبة لحزب النداء مؤلفة من كل وجوه اليسار التي وقفت مع بن علي واستفادت منه ولم تغير مشروعها الوحيد الذي تعيش منه وهو إقصاء الإسلاميين، ودفعت بالنقابة إلى المواجهة (يستوي في هذا من نسميه باليسار الثقافي واليسار الحركي فقد كان يتوزعان الأدوار ويزعمان الاختلاف)، لقد خربت النقابة حكم الترويكا ولم يكن الحوار الوطني المزعوم إلا عملية إبعاد للإسلاميين عن مواقع القرار، وثبت ذلك بعملية تصفية وجودهم من كل المواقع التي وصلوا إليها في وزارة المهدي جمعة 2014، فلما أنجزت انتخابات 2014 فاز بها الباجي وخسرها حليف الإسلاميين الدكتور المرزوقي.

سنوات الباجي الذي وصل على ظهر اليسار لم تسر على هوى اليسار وإن لم تقصهم، فقد سكن كثير منهم قرب الرئيس وظلوا يسندونه ويطاردون الإسلاميين بما بقي لديهم من وسائل الحكم، فالإسلاميون ذوو الكتلة البرلمانية الثابتة محرومون من الوزارات السيادة والمالية ويسمح لهم بوزارات فنية تقاد ضدها المعارك الإعلامية فتفشل (مثل وزارة الصحة) بينما يحصل يسار بلا نواب في البرلمان على وزارة الزراعة (حيث قوت الشعب).

نهاية الباجي آذنت بتقلص نفوذ اليسار، لكن اليسار والثقافي منه خاصة (وهو منظر الاستئصال) ظهر فجأة في حملة الزبيدي ليطرح نفس المشروع، ولا يزال يقود حملته الجارية للانتخابات البرلمانية، وننتظر أن يعيد نفس المعركة في الدورة البرلمانية القادمة.

اليسار يقود حملة قيس سعيد

يختلف قيس سعيد اختلافًا جذريًا عن بن علي والباجي ولكن حملته كشفت أن اليسار قد رتب الأمر للعودة من باب آخر، ليس نفس اليسار الثقافي (الفرانكفوني) ولكنه يسار مر من معارك الجامعة التونسية وخاض معارك الإقصاء، ولا شك أن طاقم الحملة سيكون طاقم الرئاسة بما يؤبد فكرة اليسار صانع الرؤساء، سواء من داخل السيستام أو من خارجه، ويكشف قوة فئة قليلة العدد لكنها تحسن التخطيط والعمل السياسي من وراء الأحجبة دون مواجهة مباشرة مع الشارع الذاهل عن جوهر معارك اليسار الثقافية.

لقد وجد الإسلاميون أنفسهم عاجزين عن صناعة رئيس فمرشحهم خسر فاضطروا إلى إسناد قيس سعيد على أمل وضع تصويتهم له ضمانة أن لا يعود طاقمه إلى نفس المعارك، لقد وجدوا أنفسهم يختارون الدفاع مرة أخرى وقد فشل الهجوم.

إنها حالة العدد غير المفيد أمام ذكاء التموقع وحسن قراءة تقاليد السياسة في تونس منذ التأسيس الأول، حيث تؤدي مواجهة السيستام إلى الخسارة بينما ينجح التسرب عبر الأجهزة ودوائر الحكم إلى مواقع التأثير الفعالة فيغني عن العدد.

نرجح أن يكون يسار قيس سعيد مختلفًا عن يسار بن علي والباجي وعلى الإسلاميين أن يصوتوا لقيس دون أن يمنوا عليه بذلك، فتذكيره بدورهم سيؤدي إلى إعادة تأليب اليسار معه ضدهم لتعود نفس التحالفات من داخل "السيستام" من أجل نفس المعارك.

وإذا دخل قيس سعيد معركة تغيير القانون الانتخابي من التصويت على القوائم إلى التصويت على الأفراد سيكتشف وهو البعيد عن معارك الاستئصال أن التصويت على الأفراد يؤدي إلى ربح الإسلاميين الذين خسروا الكثير بقانون أكبر البقايا الذي وضعه يساري آخر من يسار بن علي (عياض بن عاشور الذي لا يعتبره اليسار يساريًا ضمن لعبة توزيع الأدوار) بنية واضحة منع الإسلاميين من الفوز بأغلبية، وحينها سيشتبك مع اليسار من أجل أفكاره أو يستسلم له ليظل في موقعه ويغير مجال المعركة فيكون صنيعة اليسار وإن وصل بأصوات الإسلاميين.

قراءة الخريطة السياسية التونسية وتفكيك مفاصلها والتعرف إلى فاعليها تقدم حالة مثالية لقراءة مكانة اليسار الفعلية في قيادة الدولة العربية الحديثة، وتحدد أهم أسباب تأخر الديمقراطية فيها، فالمثال التونسي قابل للتعميم عربيًا (يكفي أن نتأمل طواقم وزراء الحسن الثاني والفئات التي نظمت الحرب الأهلية الجزائرية بعد عام 1990 ونبحث في موقع اليسار المصري زمني مبارك والسيسي).

لقد فرض اليسار العربي على الدولة العربية معركة طويلة الأمد مع الإسلاميين أبدت وضع الدكتاتوريات العربية وسمحت لها بتخريب عمليات التنمية المنتظرة منذ الاستقلال ولم يهتم اليسار أبدًا وإن زعم بمعركة التنمية، وكانت صناعة الرؤساء الذين يخوض بهم حروبه الأيديولوجية مقدمة على صناعة السياسي الذي يبني الديمقراطية، فالديمقراطية باب يدخل منه أعداؤهم الأيديولوجيون، لذلك فغلقه مقدم على كل مشروع. فهل ستكون حقبة قيس سعيد إيذانًا بنهاية هذه المعركة؟ نميل إلى الاعتقاد أنه على العرب انتظار فعل الزمن في اليسار فهو فئة لا تتجدد ديموغرافيًا.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات