علاقة السياسي بالمثقف في الوطن العربي

Photo

أعادت الدولة الحديثة إنتاج نمط العلاقة القديم بين المثقف والسياسي بكل تفاصيله. سياسي يزعم الذكاء ولكنه يملك المال أكثر، ومثقف يملك أفكاراً لا يفلح في تسويقها فتنشأ علاقة تبعية يقودها رئيس الجمهورية أو الملك.

في المشهد السياسي العربي توجد إشكالية عويصة هي أنماط بناء العلاقة بين السياسي والمثقف وأساليبها، من يقود الآخر ومن يستخدم الآخر؟

التاريخ يقدم لنا نماذج سيئة

عبر تاريخ العرب الطويل كان السياسي دوماً يستخدم المثقف، مهما كانت التسمية التي أطلقها هؤلاء على المثقفين أصحاب القلم كما يقول ابن خلدون. لقد استُخدموا دوماً نظير أعطيات السلطة بدءاً من الشاعر المداح حتى الناصح كاتب الآداب السلطانية. وأفضلهم نأى بنفسه عن خدمة السلطان فعاش فقيراً بينما رفل المتزلفون في الحرير.

الدولة الحديثة أعادت إنتاج نمط العلاقة القديم بكل تفاصيله. سياسي يزعم الذكاء ولكنه يملك المال أكثر، ومثقف يملك أفكاراً لا يفلح في تسويقها فتنشأ علاقة تبعية يقودها السلطان الجديد (رئيس الجمهورية أو الملك). أفكارك ونصائحك مقابل مغانم السلطة، فكان أن استعبدت السلطة كل مثقفيها، وعاقبت من رفض موقع التابع بالسجن والإبعاد والتهميش؛ هذا إذا لم يكن ثورياً فيطارَد في رزقه وحياته حد البؤس.

لم يكن الحاكم العربي الحديث محتاجاً إلى الآداب السلطانية، بل كان محتاجاً إلى ألسنة تبرير لما يفعل، وكان المثقف الحديث قادراً على إنتاج منظومة خطاب تبرر كل ما يرى ما دام العطاء متوفراً. لذلك وفّر له إيديولوجيا جديدة منها الفكرة القومية ومنها التنمية ومنها الإصلاح السياسي ومنها حماية الأوطان, إلخ.

وفي كل حادثة كان الخطاب يجدد مفرداته أو يغير الأشخاص ببديل جديد يواصل نفس الخطاب حتى صار مثقف السلطة آلة تبرير صماء تغض الطرف عن كل الهزائم. وما كان أسرع المثقفين إلى ركاب السلطة وتعد تونس نموذجاً مثالياً لقياس ذلك ودراسته بخاصة في زمن بن علي الذي حكم مطمئناً بأكبر أساتذة الجامعة التونسية الذين تحولوا بسرعة إلى بوق دعاية فجة للص حقير.

الثورة لم تغير شيئاً بعد

ونقول بعد احتفاظنا بالأمل في أن تحدث معجزة تعيد ترتيب العلاقة بين المثقف والسياسي، وهذه المرة توسعت الرقعة السياسية لتشمل من في السلطة ومن خارجها ممن كنا ننعت بالمعارضة، والتي أعادت إنتاج نفس العلاقة حتى الآن.

فالسياسيون الجدد ساروا سيرة القدامى في محاولة استخدام المثقف كعجلة خامسة يدعى عند الحاجة إلى التبرير أو في أفضل الحالات التوجيه بمنطق أيها المثقف فكر لنا وابقَ بعيداً؛ فالسلطة لنا إن عاجلاً أو آجلاً وأنت مهمتك الأولى أن تنتج أفكاراً وكراسات برامج نحكم بها، ولكن لا تطمع في أكثر من هذا التقدير، أنت صالح لتساعدنا لا لتحكم بدلاً منا.

يعود السؤال مرة أخرى عن كيفية بناء العلاقة بين الطرفين المشاركين في الفعل العام. فالمعارضات القديمة لم تختلف في نمط التفكير وبناء العلاقة وإذا كنا وصلنا إلى مرحلة نقد السلطة فإننا صرنا محتاجين إلى نقد من يعارضها في هذه النقطة بالذات.

في تونس يخيّم شبح الانتخابات على الأحزاب وتبدو عاجزة عن تقديم أفكار وبرامج فعلية لشعب بدأ يفهم أن الخطاب الجميل وحده لم يعد يقنع، فينطلي، فيسير الناس خلفه بل يحتاجون إلى تقدير مختلف لحاجتهم وإلى تواضع السياسي لمشاغلهم، وفي هذه احتاج السياسي الطموح إلى مثقف يفسر ويبرر.

لا يبدو أن المثقف سيكون في الصورة في المشهد الانتخابي إلا كمكمل لسياسي يملك الرغبة في السلطة ويتفقد وسائلها وأهمها القدرة على إنتاج أفكار مقنعة تتحول إلى كراسات عملية للحكم. بعيداً عن تلك الطريق السالكة والتي لم تؤدِّ إلى أي منفذ، أي طريق ترتيب وضع الناس بقوانين يطبخها برلمان كسول هو عبارة عن برج عاجي منعزل عن نبض الشوارع الثائرة على الرغم من الإحباط الكبير.

هل توجد دولة للمثقفين العلماء؟

لم يكن هذا إلا في جمهورية أفلاطون. لذلك لا نطمح إلى حالة مثالية يشتغل فيها السياسي خلف المثقف ولكن اللحظة الراهنة تقتضي بناء علاقة مختلفة لا يستنجد فيها بالمثقف لسد ثغرات يتركها السياسي ويبررها المثقف أو الخبير العالم بأسرار الحكم.

مطلوب من السياسي العربي عامة والتونسي خاصة في هذه الأيام الانتخابية أن يحد من طموحه إلى الغنيمة عبر تغيير أسلوب الحكم. وأن يبدأ التفكير من موقع مختلف. التصدي للشأن العام ليس غنيمة فردية ذات مردود يُستهدف لذاته وإنما تكليف يحتاج الحكمة والحكمة ليست من إنتاج السياسي فكيف يكون إذن.

تجارب الحكم الديمقراطي المشاهدة على الضفة الأخرى لا تستعمل المثقفين كأداة تبرير وإنما تهيئ لهم مراكز الخبرة الممولة من الدولة نفسها بحيث يصير للأفكار منفذ بعد أن يصير لها ثمن في كنف تقدير الكفاءة.

مراكز الخبرة والتفكير هي بوابات حكم ملزمة للسياسي الذي يجد نفسه ملزماً ببرامج ودراسات تسبقه وتكشف له الطريق إلى حكم رشيد؟

عندما يشعر السياسي أنه مراقب وأنه ينفذ فإن طموحاته السياسية تنضبط لما هو معروف ومطلوب شعبياً ونخبوياً وليس هوى يطلب لأجل غنم فردي ومجد قصير الأمد. فلا مجد لسياسي في بلاد بلا مجد ولا كرامة يشتت الفقر كفاءاتها ويشرد شبابها. إن ذلك بمثابة الارتفاع فوق خرابة ورفع الصوت بغناء شجي (هذا إذا كان السياسي يملك قدرة على الغناء) فلا أحد يسمع حينها إلا بوم الخرابة.

إذا كان العصر الحديث قد قضى على غرض المدح في الشعر العربي فإن ما بعد الربيع العربي يجب أن ينهي دور المثقف الصنيعة ويمهد للمثقف المشارك دون إذلال أو استزلام.

وهذا أفق للربيع العربي ننتظر أن يحين أوانه. بعد أن تنكشف صغارات نفوس الطبقة السياسية الحالية التي ورثت عاهات الدكتاتورية وفكرت أن الضحك على ذقن المثقف بعطاء من الدولة لعبة منتجة لحكم مريح.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات