مثلث برمودا التونسي

Photo

في الزاوية الأولى، رئيس الحكومة يطلق سراح الفاسدين الذين سجنهم بتهم موجبة للإعدام، وفي الزاوية الثانية عاملات السخرة في الحقول يمتن على الطرق في سبيل الحد الأدنى من العيش، وفي الزاوية الثالثة نجد النخبة مالكة الحق في الحداثة وموزعته بالقسطاس تناقش حق الإسلاميين في حضور الندوات العلمية في الجامعات وتعلن النفير أن احذروا المسح على رؤوس الأفاعي. ثلاث زوايا شكلت المثلث الذي تغرق فيه تونس حكومة للفساد وشعب للفقر ونخبة تائهة. فكيف لا يغرق البلد؟ نقرب المنظار من الحفرة البائسة.

حكومة متواطئة مع الفساد

أكثر المواضيع تداولاً في وسائل الإعلام الموالية للحكومة التي اصطنعها رئيس الحكومة بسرعة قياسية لحسابه ولحساب حزبه هي مواضيع فضح الفاسدين ومقاومتهم ولكن لا أحد حتى الآن رأى فاسدًا مكبلاً إلى السجن أو على الأقل يصلح ما أفسد مقابل عفو أو غض نظر.

لقد حصل خلاف ذلك تمامًا، وها هي ذي عينة من سلوك الحكومة، لقد قبضت حكومة الشاهد على أحد عناوين الفساد منذ زمن بن علي وهو مضارب مشبوه جمّع ثروة خيالية مما قيل إنه احتكار توريد الموز بالشراكة مع عائلة أصهار بن علي، وكانت التهم التي وجهت إليه في الإعلام (لا في القضاء) تستحق حكم الإعدام، إذ منها التآمر على أمن الدولة العام وهي تهمة تدخل تحت طائلة قانون مقاومة الإرهاب.

عقد الفاسد صفقته مع رئيس الحكومة وأطلق سراحه بعد إيقاف مطوّل خارج القانون، فضحت الصفقة؛ فقد حوّل رئيس الحكومة الثقل المالي لهذه البؤرة لحسابه بعد أن كان مواليًا لغريمه ابن رئيس الجمهورية الذي بسببه قُسم الحزب والمجموعة النيابية لحزب النداء، ووجد الشاهد ممولاً لحزبه الجديد، لذلك عقد مؤتمره التأسيسي وجمع الأنصار بالمال وبوسائل النقل العام التي عطلت عن مساراتها الخدمية لتتكفل بنقل أنصار الحزب مجانًا إلى المؤتمر.

هذه واحدة من صفقات حكومة الشاهد وحزبه وهي معالم طريقه إلى حكم تونس، إذ يعمل الرجل بكل حماس على التقدم إلى موقع سيادي لا يقل عن رئاسة الجمهورية. في الأثناء تنفق عاملات الفلاحة على الطرقات الكالحة كالسوائم.

الهامش يزداد فقرًا

حادثة موت عاملات الفلاحة في وسط البلاد أثارت دموعًا كثيرة وغضبًا وأنزلت رئيس الحكومة من عليائه إلى موكب تعزية، فاكتشف الفقر المعشش في الأرياف. طبعًا بعد الصورة الإعلامية للمواساة تم تذويب الفشل في ماء التعاطف الإعلامي ونسي كأن لم يكن، فلا أحد يهتم حقًا بالكادحات على الطرقات، فوضع العمالة الريفية والنسائية منها خاصة ليس شاغل النخبة ولا شاغل الأحزاب إلا في المواسم الانتخابية. هي أعشاش فقر مدقع، تضطر فيها المرأة الكادحة إلى التنقل مسافات بعيدة مقابل أجر زهيد نظير يوم عمل يتجاوز الساعات العشرة.

غني عن القول هنا أن قضايا النسوية (النوع الاجتماعي) التي تجتمع حولها نخبة نساء الجامعة والحقوقيات الباهرات لا تشمل هذا النوع من الكادحات المنسيات، بل صرحت إحدى بطلات الخطاب النسوي أن العمل في تونس يحتاجهن في الوضع الحاليّ للسيطرة على كلفة الإنتاج الغذائي، فتدني الأجور يجعل المواد الزراعية متاحة بأثمان معقولة لها ولمثلها من سكان المدن، لكن الحكومات أيضًا تعرف وجودهن ولا تنشغل بهن.

الحكومة أولى بهؤلاء وبمثلهن في مواقع العمل ولكن انشغالات الصراع الانتخابي تسقطهن من اهتمام الحكومة، فالحلول الجذرية مكلفة ولا ترغب الحكومة في الإنفاق على البنية التحتية هناك حتى تتوافر على الأقل طرق يسهل السير عليها فلا تقع الحوادث القاتلة.

لقد مرّت موجة التعاطف الشعبي مع الضحايا وعاد نقاش القضايا المحببة إلى النخبة مثل حق اليسار في القول إن الرسول وجماعته كانوا قطاع طرق وما غزوة بدر مثلاً إلا عملية من عمليات قطع الطرق التي تحترفها العصابات.

غربة النخبة

هنا تنكشف الزاوية الثالثة لمثلث برمودا التونسي، نخبة تعيش في عالم آخر، فجزء من نخبة الحداثة لا يطيق أن يرى وجوه الإسلاميين في الصورة التي يحب رؤيتها، لذلك يحذّر أعلامهم الكبار من المسح على رؤوس الأفاعي أي التسامح مع الإسلاميين لحضور ندوات علمية أو حوارات فكرية تجعل منهم شريكًا في الوطن، فالنخبة الحداثية تتملك مواقع خاصة منها كلية الآداب والإنسانيات بمنوبة فهي إقطاع خاص لا يجب أن يدخله الإسلاميون حتى كجمهور في ندوة فكرية تناقش الإسلام السياسي أو غير ذلك من المواضيع.

بعد ثماني سنوات من العمل السياسي المشترك مع الإسلاميين في الحكم وخارجه ما زال هناك من يستفزه وجه السياسي الإسلامي (النهضاوي) فيعافه ويتمنى سحله ويريد له الدمار بل يطلق عليه الغوغاء فتقطع ملابسه. وقد قرأنا مقالات مستبشرة بسعي الرئيس الأمريكي لتصنيف حركة الإخوان المسلمين كحركة إرهابية وعينهم على قانون مقاومة الإرهاب التونسي، فبمجرد تصنيف الجماعة ستبدأ محاكمات أتباعهم في تونس الذين وإن تبرؤا منذ زمن من كل علاقة تنظيمية مع الإخوان المسلمين إلا أنهم ما زالوا محسوبين عند النخبة كتوابع لهذا التنظيم الدولي.

ويذهب الصراع إلى حد تمني انتصار حفتر في ليبيا ليتمكنوا من الاعتماد عليه هناك لمحاربة الإسلاميين هنا، ولا داعي للسؤال هنا عن مصلحة تونس في انتصار حفتر فالمهم أن يفقد الإسلاميون نصيرًا لهم في ليبيا يكون بعده السحل المنهجي.

بعيدة هذه النخبة عن المشاركة في مقاومة الفساد وعن الاهتمام بعاملات الزراعة الكادحات وعن موجات الحارقين عبر البحر إلى هوامش الاقتصاد الأوروبي التي لم تنقطع. فهذه القضايا تزعج النخبة وتضطرها إلى التفكير.

مثلث برمودا سيبتلع ثورة تونس

لم ترس السفينة التونسية إلى ميناء آمن بعد ولا يبدو أنها تتجه إلى أي ميناء غير ميناء الفساد والصراع السياسي التقليدي الذي كانت غارقة فيها قبل الثورة. فحتى الآن كل شيء من دولة بن علي يعود إلى مكانه، بل إن بن علي نفسه يمني النفس بالعودة كزعيم مضطهد من غوغاء جاهلة، وقد آن أوان الاعتذار له، فقد صار له أنصار يتكلمون بصوت عالٍ وينظمون دخولهم للبرلمان ويصعدون في أسبار الآراء .

إنها ردة على أبواب الانتخابات، فلا الحكومات تعلمت الاهتمام بقضايا الناس قبل أطماعها الشخصية ولا النخبة تعلمت ترتيب الأوليات الفكرية والنضالية ولا الجمهور بقي مؤمنًا بالتغيير يدفع إليه بالشارع والاحتجاج كما كان في أول الثورة، لقد سيطر الإحباط والسفينة تتجه إلى الحفرة.

لوحة سوداء. نعم. كلما بحثنا لها عن بارقة أمل عازتنا، فنحن نجادل الآن حق البعض في التجوال في أرض الوطن دون أن يزعج إقطاع الحداثة ونناقش حقنا في معرفة كواليس صفقات الفساد التي تمول السياسة وهي قضايا كنا افترضنا زوالها في الطريق إلى الديمقراطية، لكن طاحونة الشيء المعتاد تدور على محورها وتصدر أصوات قرقعة فارغة.

هل تتغير الريح فتدفع السفينة خارج مثلث الموت؟ من يدري ها نحن نختلق أملاً من تقدم الحراك الجزائري نحو خلاص ديمقراطي حقيقي ستكون له آثار فعالة على المنطقة وها نحن نعلق أملاً على اندحار المرتد حفتر في ليبيا، ولكن سنظل نردد ما حك جلد الإنسان مثل ظفره ليتولي هو جميع أمره.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات