من يحكم تونس هذه الأيام؟

Photo

كل شيء مكتمل شكلا لكن لا شيء يشتغل في طريقه. يوجد رئيس دولة ورئيس حكومة وبرلمان متعدد الأحزاب وهيئة انتخابية لكن البلد تحكمه جهة أخرى لا تتجلى لمن يبحث عن شكل الدولة الظاهر.

المؤسسات الشكلية الظاهرة للعيان تشتغل عند هذه الجهة الخفية. يمكن الجزم بأن هذه الجهة الخفية هي التي تحكمت في كل اللعبة السياسية منذ الثورة. ووجهت المسارات السياسية نحو اللحظة الراهنة حيث نكتشفها وقد أزالت من جرأة ووقاحة أقنعتها فبانت هذه الجهة هي المال الفاسد. سنعود إلى بداية قادرة على فهم طبيعة هذا المال الفاسد المفسد.

البرجوازية التونسية حالة شاذة.

لم يكن المجتمع التونسي مجتمع مساواة بل كان مقسما طبقيا وهذه حالة عادية لكن دولة الاستقلال أعادت ترتيبه طبقيا بخلق برجوازية جديدة على أنقاض ارستقراطية المدن. وخاصة مع سياسة الهادي نويرة الليبرالية. لقد خلقت الدولة طبقة بأموال الدولة وحجتها في ذلك خلق قطاع خاص عالي التشغيلية(السياحة والنسيج) ليساعد الدولة في استيعاب يد عاملة شابة لا يمكن للقطاع العام والوظيفية العمومية أن يستوعبها كلها. وكان خطاب تعاون القطاعين العام والخاص أيديولوجيا ممتعة لرجال الدولة الجدد ولكنه كان غطاء جيدا لرجال المال الجدد الذين تخفوا تحت يافطة التعاون ليحصلوا على كل المكاسب دون تقديم الخدمات المنتظرة منهم.

منذ نشأتها ظلت هذه الطبقة تتواكل على الدولة وتبتزها وتهددها بطرد العمال. وهي نقطة ضعف كل الحكومات. كل ما أراد صاحب مؤسسة اقتصادية الحصول على مكاسب (قروض أو إسقاط ديون أو إعفاء ضريبي) يهدد بإغلاق المؤسسة فتأتي الحكومات طائعة لترضيته.

أغلب المؤسسات الاقتصادية التونسية الخاصة حاصلة على امتيازات تخفيض المساهمة الاجتماعية للعمال وتدفعها الدولة عنها وأغلبها حاصل على إعفاءات ضريبية باسم توريد التكنولوجيا. وكثير منها معفي من ضرائب التصدير لتشجيع التصدير. والمدونة القانونية التونسية كلها تقريبا وضعتها هذا البرجوازية دون أن تكون بالضرورة قائمة في البرلمان. يوجد تقسيم أدوار سياسي خلق الفساد وظل يغطي فساده حتى الآن .

لقد كان حزب الدستور وحزب التجمع (سليله) يعيشان من هبات وعطايا هذه البرجوازية فهي ممولة الحزب والمتكفلة بامتيازات رجاله الذين يردون الفضل في البرلمان بتشريعات ملائمة لمموليهم. لقد كان هذا الحزب بمرحلتيه حزبا للبرجوازية يتبادلان الخدمات ويستحوذان على الدولة والمجتمع. ولم تكن تلك القواعد الشعبية ألا قطعانا مجلوبة للتصفيق في الاجتماعات وكان يمن عليها بوجبة دسمة في يوم الاجتماع الحزبي.

الثورة لم تغير المشهد.

حديث الثورة أكبر من الثورة فهي لم تعدل في المشهد إلا في الظاهر. لأن طبقة رأس المال التي حضنت حكم بن علي لم تضار في أموالها وفي مواقعها من السلطة. لقد لبست السفساري في الشهور الأولى للثورة ثم عادت بأساليبها المخاتلة لتتحكم في المشهد. من وراء أقنعة جديدة.

هذه الطبقة ليست غبية بل لعلها أذكى من يتحرك في تونس ويصنع السياسات. ومن ذكائها أن تسمح للثوار بالحديث الثوري العالي النبرة في ما هي تعيد توزيع مواقع رجالها في السلطة وحولها. هكذا جيء بالباجي رئيس حكومة انتقالية في 2011 في موجة ذهول الثوريين ثم ألفت له حزب النداء وكسرت به نتائج انتخابات 2011 ليكون الرئيس بعد 2014 ويقدم لها ما كان يقدم بن علي مواقعها وأموالها. إذ فرض قانون المصالحة محطما قانون العدالة الانتقالية. فنجت من كل حساب باسم الثورة.

وهي تشاهد الآن الباجي وقد استنفد قدراته واهتزت مكانته بمحاولته توريث ابنه(وهو ما لم يكن على جدول أعمال طبقة المال). لذلك نراها تنقل ثقلها وراء يوسف الشاهد وتجعل منه زعيما شابا تنفخ في صورته ليكون لها غطاء جديدا يحميها ويفتح لها الطريق نحو المزيد من التمكن والثورة. وقد بدأ بعد بنفس منطق بن علي إسناد مالي للحكم مقابل إسناد سياسي للمال. وخارج كل الضوابط القانونية والشفافية التي ترفع شعارا فضفاضا في المحافل كما كان بن علي يرفع شعارات حقوق الإنسان ويقتل الناس في سجونه. للتذكير هذه لطبقة استولت منذ أول أيام الثورة على ماكينة إعلام بن علي واستخدمتها كما شاءت حيث ما شاءت.

هوان الطبقة السياسية التونسية.

من وجهة نظر التركيبة الحقيقة للسلطة فإن الحكم لم يخرج أبدا من يد هذه الطبقة ولذلك فإن معارضيها القدامى مازالوا هم معارضيها وإن توهموا مشاركة في السلطة هم لا يضاهونها في الذكاء بل هي تلاعبهم وتعبث بوجودهم ومثال ذلك حزب النهضة الإسلامي. الذي يعتقد أنه قد دخل الدولة فصار جزءا منها ويشارك في إدارتها. والحقيقة أنه استسلم للعبة الإيهام بالحكم متخيلا أنه يوجه السلطة إذ يحيط بها وهو في الحقيقة منساق/محمول إلى ما أرادت له طبقة المال.

ففي قانون المصالحة لم يستطع حزب النهضة أن يقول لا بل برر ذلك وزكاه. وهو نفس الموقف الذي وجد فيه نفسه قبل ذلك أي أثناء تأسيس حزب النداء في 2012. لقد ظن خيرا بالديمقراطية فلم يمنع أعداءها من التجمع من جديد (كان شعار سنقصيهم بالصندوق هو السائد حينها)وكان لتهاونه أثر سلبي جدا على ما تلا ذلك وهو نفس الموقف من تأسيس حزب الشاهد الآن. حيث ما كان للشاهد أن يفعل شيئا دون الإسناد السياسي القوي من حزب النهضة الطامع في الحكم. وسيحكم الشاهد بأمر من البرجوازية التي قدمته وسيوزع مكارم العفو على النهضة. فهي دوما في موضع المتفضل عليه بالهواء وليست صاحبة حق في الحكم.

الوجه الآخر لهوان الطبقة السياسية عند برجوازية الفساد هو اليسار التونسي الذي تضعه موضعا أشد بؤسا من حزب النهضة. اليسار عصا غليظة تضرب بها هذه الطبقة خصومها. منذ وجد هذا اليسار كلف بمهمة تخويف الإسلاميين وقد جدد له المهمة في كل مرحلة فقام بها أحسن قيام. الصورة الأكثر دلالة على هذا العبث باليسار وبالإسلاميين معا هي اعتصام الرحيل أو اعتصام إسقاط المجلس التأسيسي. لقد كان شباب اليسار يبيت معتصما حول المجلس بمقابل مالي تدفعه هذه البرجوازية دون أن تظهر في الصورة.

بعد الاعتصام صار الباجي رئيسا وخسر اليسار والإسلاميون كل الاحتمالات الجيدة التي جاءت بها الثورة.

لم يفهم أي من أطياف السياسة أنهم بعيدون عن حكم البلد مجتمعين أو متفرقين ماداموا ألعوبة في يد هذه الطبقة الذكية التي تتحرك دوما من وراء حجاب.وليست معنية بتنمية البلد بقدر سعيها إلى تنمية ثرواتها الخاصة.

هذا الطبقة هي طبقة من السمسارة أجزل في توصيفهم سمير أمين منذ الستينات فهيب أبعد ما تكون عن البرجوازية الوطنية لذلك لم تبن مؤسسة ثقافية واحدة ولم تمول إنتاجا علميا أو فكريا (قياسا على منجزات البرجوازية الأوربية التي بنت أروبا بحر مالها قبل أن تتكفل الدول بالمجتمعات) هذه الطبقة ليست حداثية وليست محافظة ليست معنية بتحرير المرأة أو بتجديد الفكر الديني. هذه ترهات الطبقة السياسية والمثقفين الذين تترك لهم طبقة المال ملهاتهم يختصمون حولها فلا تزعج عراكم بل تضحك وتواصل مراكمة ثرواتها باستعمال الدولة وأجهزتها وقوانينها.

وها نحن نرى عراك المثقفين متواصلا حول نفس القضايا فيما طبقة المال ترتب أمر الحكم مع قناعها الجديد يوسف الشاهد لما بعد 2019. لذلك تتضح لنا الإجابة عن السؤال العنوان من يحكم تونس؟الأكيد أنها ليست طبقة مثقفيها البائسين المختصمين حول قانونية الفحص الشرجي للمثليين.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات