جدل** « الانتخاب والانقلاب... »

ملاحظات حول مرجعيات الدعوة إلى الحوار

القانون الذي حكم المسار السياسي في مرحلتي التأسيس والانتقال الديمقراطي نسمّيه « قانون الانتخاب والانقلاب ». وملخّصه أنّ ما عرفناه منذ 2011 يمكن تلخيصه في انتخابات حرة ونزيهة سرعان ما يرتدّ من خسرها بتقاطع مع السيستام، ويتنكّر لنتائجها السياسية ويجتهد في التعطيل وإقامة العراقيل إلى درجة الانسداد السياسي، فتقوم الدعوة إلى الحوار في مواجهة نتائج الانتخابات. وهذا هو مضمون الانقلاب.

ومن المهمّ الإشارة إلى أنّ الاختيار الشعبي الحر كان بفضل انتفاض الهامش الجذري وكسره بنية الاستبداد الثلاثية (دولة/مجتمع/ الزعيم أو الحكم العائلي المافيوزي)، ليحلّ محلّها بنية ثنائية ( دولة/مجتمع) هي شرط الاختيار الشعبي الحر.

وقد كان للإسلاميين دور كبير في النضال ضدّ الاستبداد. واستمرّ صدامهم مع العهدين البورقيبي والنوفميري ثلاثة عقود كان فيها عشرات الشهداء وعشرات الآلاف من المعتقلين والضحايا. في حين كانت العائلات السياسية المجاورة بين الوقوف على هامش هذا الصراع أو شريكة للنظام في جرمه. فكان من بين من شاركوه لجان تفكيره وزراؤه وبوليسه السياسي ومنظومته في التعذيب..وكثير من عناصرها جلاّدون وهم في حقيقتهم موضوع للمحاسبة، فجريمة التعذيب لا تسقط بالتقادم.

وحتى من مارس المعارضة الجادّة في إطار المطلب الديمقراطي والحقوق السياسية (نجيب الشابي)، ما كان له بمساحة للحركة السياسية المعارضة لولا استمرار الصدام بين الإسلاميين ونظام بن علي الدموي. وذلك في سياق انبناء معادلة رباعية الأضلاع خضع لها النظام في حربه على الحريات: النظام، الإسلاميون، المعارضة الديمقراطية، والمعارضة المصنوعة (كثير من المتصدرين للتقدمية والطهورية في أحزاب ما بعد الثورة كانوا من قياداتها أو من اللاجئين عندها).

بعد الثورة منهم من نقض غزله، فكان لنجيب الشابي دور في شقّ الصفّ الذي اجتمع يوما على مطلب الحريّة. وساهم إلى جانب الجبهة الشعبيّة في إجهاض التأسيس خدمةً للسيستام. ومهّدا له اعتلاء الرئاسات الثلاث في 2014، ليتخلّى عنهم في توافق مع النهضة كان بشروطه...ضعف الطالب والمطلوب.

ويقوم المنصف المرزوقي استثناءً وخروجا عن هذه المعادلة بدعوته إلى ضرورة تجاوز المعارضة إلى المقاومة المدنية (لا يصلح ولا يصلح).

في سنواتنا العشر أنجزنا ثلاثة استحقاقات انتخابية (2011، 2014، 2019). ومن المهم ملاحظة أنّ الاستحقاقيْن اللذين فُوِّضت فيهما القوى المحسوبة على الجديد (2011، 2019) انتهيا إلى فكرة الحوار الوطني وهو في جوهره رفض لنتائج الصندوق السياسية ومحاولة للالتفاف على الاختيار الشعبي الحر.

كان الرفض في 2013 لنتائج الانتخابات من قبل القديم ورافده من اليسار الوظيفي بعد حادثتي الاغتيال الموجهتين لوأد التأسيس. وقبل هذا رفع اليسار الوظيفي شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" بعد شهرين من منح الحكومة الثقة من قبل المجلس التأسيسي.

ويأتي رفض النتائج اليوم من قبل ثلاث قوى تجاهر باستهدافها للديمقراطية ولمؤسساتها الأصلية مثلما استُهدف المجلس التأسيسي، وهي الشعبوية والفاشية والوظيفية الجديدة والقديمة. وهي، في موقفها هذا، تتقاطع موضوعيا مع السيستام ومناوراته.حتّى لا فرق بين دواعي الحوار الأساسية في الحالتيْن (2013،2019)، ولكن من المهم الوقوف اليوم عند دعوتين للحوار تختلفان في مرجعية الحوار.

‏ الدعوة الأولى:

تصدر عن جهة تتنكّر للمنظومة الديمقراطية القائمة ولمرجعيتها السياسية وتدعو إلى حوار بمرحعيّة هووية إيديولوجية "نمطيّة". ويمكن التمييز في هذه الجهة بين موقفين يختلفان في الدرجة فحسب:

أ -موقف يشترط، في مستواه الأدنى أن تكون استقالة الحكومة وإبعاد رئيس البرلمان على طاولة الحوار. وكان يمكن أن يُقبل طرح موضوع الحكومة، ولكن مصير رئيس البرلمان لا يمكن أن يتحدّد خارج البرلمان. وهذا المطلب يكشف عن انفصام سياسي يظهر في الدعوة إلى القفز على الاختيار الشعبي في انتخابات البرلمان والتمسك به في انتخابات الرئاسة! ويمثّل التيار وحركة الشعب هذا الموقف. ولهذا الانفصام صور متعدّدة، إذْ لا يمكن لهذه الجهة أن تقف عند خرق رئيس الجمهورية للدستور وإصراره على تعطيل مؤسسات الدولة وهو خرق جسيم لا يقارن بما يُنسب إلى رئيس البرلمان من تعثّر في الأداء، ولا يقاس إلاّ إلى بلطجة الفاشية في المجلس.

وحتّى عندما صوّت البرلمان على تنقيح قانون المحكمة الدستورية، وهو تصويت في معظمه على مقترحات الكتلة الديمقراطية، نراهم يرتدّون إلى مماحكات تُفصِح عن لا مبدئية موقفهم من تأسيس المحكمة، وينحرفون بالنقاش إلى مهاترات مدارها على التشكيك في تضخيم الغايات الحزبية من تأسيسها اليوم في تملّق مفضوح لقيس سعيّد. ويلحّون على ما كان من تقاعس في الخمس الخوالي. وهذا سيراد به حقّ لو أنّهم تحمّسوا لتنقيح القانون حماسهم في التنديد بمن تهاون في انتخاب المحكمة. ويتناسون (وخاصّة حمّة) أن الأستاذ العيّاشي الهمّامي مرشّح حركة النهضة، وأنّ متلتها هي من صوّت له في محاولات سابقة، وأنّ الجبهة الشعبية هي من صوّت ضدّه.لذلك لم ينل العضوية من المجلس، بعد أن تمّ التصويت على مرشّحة النداء الذي نكث الاتفاق ولم يصوّت بدوره للأستاذ العيّاشي.

ب - موقف يدعو إلى إسقاط المنظومة كلّها، وهذا موقف بقايا الوظيفيّة القديمة من شظايا الجبهة الشعبية: حزب العمال، وعبيد البريكي رائد جريمة المناولة وامتصاص عرق ضحايا التشغيل الهش، وحمّادي بن جابالله رائد المناشدة من حثالة اليمين الشيوعي. ولهذا الموقف لاجئون سياسيون داخل المنظمة الشغيلة، ومن رموزه حفيّظ حفيّظ رائد الدولة الستالنية المدنيّة، ومحاولته التشويش على موثق الاتحادة بتشديده على استبعاد "أعداء الدولة المدنيّة".

ومرادف الحوار في هذه الدعوة هو الانقلاب، وفرض "نمط" على شعب فكّ قيده، ولن يقبل بغير الاختيار الحر. ولكنّ أصحابها يختفون وراء عبارة الحوار خداعا منذ 2011. ولم يسمحوا بوضع لبنة فوق أخرى.

الدعوة الثانية:

تصدر عن قوى متعدّدة ونواتها النهضة تشترط مرجعية الديمقراطية ومسارها مرجعيةً وحيدة للحوار. وأساسها احترام الاختيار الشعبي الحر في البرلمان والرئاسة وغيرهما. وأنّ الحوار غير مشروط، وأنه "لا يقصي إلا من أقصى نفسه"، على معنى أن الحوار في أصله لقاء بين مختلفين.

والمسألة المهمة جدا في هذا الصدد أنّ الموقف الرسمي للاتحاد ممثلا في أمينه العام يندرج ضمن هذه الدعوة (إلى حدّ الآن)، وقد دعا الطبّوبي في اكثر من مناسبة إلى احترام المؤسسات المنتخبة. ويمكن إيجاد صيغة تمكّن الجميع من المشاركة (حواره مع جريدة الصباح). ويُعتبر ما أمضاه مع الحكومة من اتفاقيات حسما للجدل حول موقف المنظمة. وسواء كان هذا التوجه نحو الحكومة بدافع استغلال حالة ضعفها، كما يرى البعض، أو هو نتيجة لتقدير يستحضر أهميّة التوجه الإقليمي والدولي الذي يشمل تونس وجوارها، ويطمح إلى إعادة ترتيب المشهد في المنطقة، فإنّ النتيجة واحدة وهي أن دعوة الاتحاد إلى الحوار مرجعيته الديمقراطية ومسارها ومؤسساتها المنتخبة (تأكيد الأمين العام على احترام المؤسسات).

وهذا ليس بالأمر الهيّن. وقد يكون موقف الاتحاد الرسمي هذا كافيا لجرّ سعيّد إلى حيث لا يرغب، وتأكيد أنّه السبب الرئيسي في البلوكاج السياسي وأنّه لا برنامج له خارج هرسلة الدولة وتعطيل مؤسساتها وتهديد السلم الأهلي.

يتأكّد قانون "الانتخاب والانقلاب"، وتنكشف على ضوئه كلّ القوى وكلّ المواقف حتّى لا مجال إلى التورية السياسية والمماحكات الفارغة.

ومرادف الحوار في هذه الدعوة احترام نتائج الصندوق واختيار الناس الحر، والعمل على شروط تسوية تاريخيّة بين مكوّنات المجتمع الفعليّة تستقرّ عندها الديمقراطيّة.

في أن يكون للدعوة إلى الحوار مرجعيتان تأكيد على أمرين :

ـ أنّ الفرز الحقيقي يتمّ على قاعدة الديمقراطية. وهو ما يرشّح تقدّم الموقف الديمقراطي المناصر للاختيار الشعبي الحر…

ـ وأنّ المبادرة هي اليوم للانتخاب، وأنّ الانقلاب على الاختيار الشعبي الحر مازال منذ 2011 في موضع ردّ الفعل، وأنّ تناقص شروطه في المشهد السياسي مؤذن برجحان الكفّة لفائدة الديمقراطيّة، وأن ليس لخصومها غير دعوات الويل والثبور و"تكثيح التراب" الذي سيرتدّ على وجوههم...ووليس إلاّ البكاء الكاذب على تونس، وهم من شوّه وجهها…

أستعمل عبارة جدل لا بمفهومها الفلسفي (قضيّة/ نقيض/ مركّب)، وإنّما بمعنى التأثّر والتأثير. إذ لا ينتظر من هذا الجدل موقف ثالث تأليفي بين الانتخاب والانقلاب.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات