الوطن هو ألا تُحرم من حقك. تعلّمت هذا وأنا صغيرة…

أذكّر نفسي كلّ يوم أننا لسنا محور الاهتمام، نحن أولي الامتيازات، من لا نضطر إلى الصراخ لكي يُسمع صوتنا. محور الاهتمام هو من لا يصل صوته، فيصبح كلامنا مكبّراً لواقعه. طبعاً، أيها القارئ، أيتها القارئة، لا يمكنك تصديق ما أقول – بل يجب ألا تصدق ما أقول - لأن أساس كل شيء هو الشك.

لكنني اليوم، ربما بسبب لحظة ضعف، لعله غروب الشمس الذي يضعني دوماً في حالة ذهنية فوضوية، لعله عدد الرسائل التي تصلني من أصدقاء تحمل ما يقوله عني آخرون، لعله منسوب العنف، لعله خوف عن النفس، ومن النفس، سأوضح عدة أمور يتم تداولها عني من قبل أشخاص لا أعرفهم (وفضولهم يسمّن غروري بنسق مفزع)، لأن من يسمح لنفسه بأن يخوض في الشأن العام يجب ألا يحتمي في برجه – أو خندقه.

وما سأكتب خيار مؤلم لأنني فخورة بارتفاع الحاجز الجليدي الذي بنيته حول حياتي الشخصية منذ أن أصبحت مهتمة بالشأن العام في تونس – فخورة أن من أتعامل معه لا يجد في حياتي الخاصة شيئاً مغرياً يفسّر به آرائي السياسية مثلاً. لكن هذا الحاجز قد سمح للبعض بأن ينشر غسيلاً يظنه متسخاً، وهو في الحقيقة فساتين جميلة جداً اقتنيتها، بعضها أصبح ضيقاً والآخر ما زلت ألبسه وأفتخر به، لكنها فساتين لم يرها الكثيرون لأنني، وبكل بساطة، لا ألبسها في الشارع، أو في المجلس، أو على التلفاز.

على بركة الله.

ولدت بكل فخر في تونس، عن صدفة لا اختيار، ككل الأطفال. لكنني اتجهت عائدة إلى حيث كان يعمل أمي وأبي كمعلمي اللغة الإنجليزية – البحرين – بعد أسبوعين من ولادتي، أي عند انتهاء عطلة الصيف. افتخرت كثيراً بهذا كلما كبرت في العمر "لم أعش في تونس، ولكنها حقاً مسقط رأسي!". لكنني، في الحقيقة، خطوت أولى خطواتي في البحرين، وأخذتني بسرعة إلى السعودية (لم نبتعد كثيراً، فقد قطعنا جسر الملك فهد فقط). وبقيت في السعودية إلى أن تشبع لساني باللهجة السعودية، وقلبي بالحنين إلى وطن أزوره في أحاديث أبي وأغانيه وكسكسي العولة وفي الصيف كلّ سنة. درست في مدرسة خاصة تعتمد النظام التعليمي السعودي (نعم، خاصة بالبنات فقط، وتدرس الفقه والتوحيد والتجويد والحديث والتفسير كل أسبوع - لمن يريد أن يثري منشوراته المستقبلية. العفو).

عشت أحلى أيام طفولتي لأن بيتنا كان وطننا، ولأنني كنت جدّ مستمتعة في مدرستي. إلى أن أصبحت أرى فروقات لم ترها كثيرات غيري (بما أنني كنت التلميذة غير السعودية الوحيدة مع ثلاث تلميذات أخريات في مجموعة تتكون من 60 تلميذة). أتذكّر مثلاً أنني لم أفز قط بجائزة حفظ القرآن وترتيله رغم اعتراف الجميع أنني كنت الأفضل ضمن المتباريات (إلى ضعاف القلوب: آسفة.). ولا في جائزة الكتابة. ولا في جائزة الإلقاء. والسبب يُهمس طبعاً في أذني – لست سعودية. بل أتذكر مرة أنه تمت مناداتي لتسلّم الجائزة الأولى في الترتيل، ثم سحبها عندما تفاجأت المقدمة عند قراءة اسمي. "انتي من وين؟ آه تونسية!".

الوطن هو ألا تُحرم من حقك. تعلّمت هذا وأنا صغيرة.

في إحدى حصص التوحيد (مرة أخرى، آسفة)، بدأت المعلمة الدرس بسؤال "المتحجبة ترفع يدها". كنا في الثالثة عشر من عمرنا. رفعت كل الفتيات أياديهن. استدركت المعلمة "متحجبة من جد مو بس بالسعودية"، فانخفضت معظم الأيادي بخجل، وأبقيت يدي مرتفعة. فقالت المعلمة "تونسية ومتحجبة؟ غريبة." يومها أصبحت متحجبة. لكي لا أكون قد كذبت على المعلمة؟ لأنني مقتنعة؟ لأنني مدمغجة؟ لأنني صغيرة في السن؟ لا يهم. ما يهم أنه في ذلك الصيف، عندما حطّت الطائرة في مطار تونس قرطاج، ورأى أبي أنني لم أزل الحجاب عن رأسي (كعادة القادمات من الخليج غير المحجبات وقتها)، سألني سؤال وحيد "متأكدة؟".

طبعاً، في ذلك العمر، لم أفهم قصده إلا بعد سنوات، عندما أزلت الحجاب عند المصوّر لالتقاط صورة بطاقة التعريف، وعندما منعني الشرطي من دخول المركز قبل إزالته، وعندما أغلق علي، وبعض طالبات الطب اللاتي يلبسن الحجاب، باب غرفة في مستشفى فرحات حشاد في عز الصيف، بسبب زيارة مسؤول شديد السم حينذاك. في سنة 2013، غيّرت بطاقة تعريفي لتجديد جواز سفري، ووضعت لأول مرة صورتي بالحجاب في إثباتات هويتي. في آخر تلك السنة، تغيّر أحد خياراتي الدينية الخاصة بي، واخترت ألا أغيّر بطاقة التعريف. لأن ما تغيّر هو ما ألبس لا من أكون، ولأنني فخورة بأن تونس ما بعد الثورة لا تملي على النساء خياراتهن، في الحقيقة والصور.

الوطن هو ألا تُحرم من هويتك بكل تفاصيلها وأجزائها. تعلّمت هذا وأنا صغيرة.

كنت أحب التعلّم والدراسة، وكان الجو في المنزل رائقاً، لذا كنت متفوقة. في آخر سنة لي في المدرسة، تم اختياري ضمن فريق من المدرسة للمشاركة في تظاهرة علمية عالمية اسمها ISEF، في نيو ميكسيكو. أتذكر المشروع الذي شاركت به جيداً، فكرة لإنتاج حامض ما بعد تنقية الماء الثقيل. طبعاً، تم إرسال الوفد من السعودية، وموّلته الحكومة السعودية، وكما تتوقعون، تم رفع العلم السعودي في الافتتاح، وأتذكر النظرة في عيني زميلتي الجزائرية نادية، لأنها عبرت عن كلّ ما يخالجني في تلك اللحظة. لمن يتداول صوري مع شخص أمريكي يعتقدون أنه Bush، في الحقيقة هو فائز بجائزة نوبل للفيزياء (لضعاف الثقة، سأبحث عن اسمه عندما أنتهي من كل شيء آخر مهم في حياتي)، لأنني كنت ضمن عشرين تلميذاً (من مئات المشاركين)، ممن تم اختياره لمشاركة ستة علماء مأدبة عشاء وطرح أسئلة عليهم.

كان قد زارنا في المدرسة وفد من جامعة هارفرد في سنة 2005 أو 2006 للتعريف بالجامعة وتحفيز التلميذات على التقديم. زار الوفد مدرستي حينها لأن الطالبة السعودية الوحيدة التي تخرّجت من تلك الجامعة كانت متخرجة من تلك المدرسة. قدّمت ترشحي في ديسمبر 2006، لأن الجامعات الأمريكية تقبل ترشحات التلاميذ قبل إنهاء الدراسة. أتذكّر ما قالته أمي في مكتبها في يوم ما "شيماء، يجب أن تتحصلي على المنحة الدراسية أيضاً لكي تتمكني فعلاً من الذهاب إلى تلك الجامعة، ونحن سنبذل كل ما في وسعنا لمساعدتك."(طبعاً أمي تحدثت باللهجة التونسية وليس بالعربية الفصحى).

قبلت في الجامعة قبل تخرّجي من المدرسة. الفتاة الوحيدة من السعودية (كبلد الإقامة). ولأن الحكومة السعودية توفّر منحة دراسية لكلّ المقبولين في جامعات خارج ترابها، ولأن هارفرد قبلت شخصين فقط في تلك السنة، تم الاتصال بنا لتقديم شروط المنحة. ولأن أحد الشروط هو أن يكون الطالب سعودي الجنسية، لم أتحصّل عليها. طبعاً لم أتحصل على أي منحة من الدولة التونسية لأنني لم أكن مقيمة أو متخرّجة منها. لكنني قدمت توجيهي في تونس رغبة في دراسة الطب فيها، وتم توجيهي إلى المدرسة التحضيرية في مونفلوري. لو توجهت إلى الطب لدرسته في تونس، ولكنت شخصاُ مختلفاً. لكنني فخورة أنه، منذ سنة 2012، أساهم بكل تواضع في أن يلتحق على الأقل تونسي أو تونسية كل سنة بمدرجات جامعة هارفرد، وكم أنا فخورة بذلك.

الوطن هو الحاضنة. تعلّمت هذا وأنا صغيرة.

درست الأحياء الجزيئية والخلوية كمسار أساسي، والعلوم السياسية كمسار ثانوي، في هارفرد. أمضيت أربع سنوات، من الدراسة، على امتداد أربع سنوات ونصف. ترأست جمعية الطلاب العرب مع صديقة من البحرين، وكان الأعضاء من العالم العربي أجمع، وكنت التونسية التي تفهم لهجات العرب باختلافها (يوماً ما سأصف لكم العشاء الدوري الذي كنا نقوم به واختلاط الكويتي بالمصري بالليبي والتونسي واللبناني والسوري، والتونسية المسيرّة للحوار). وبدأت تهجئة السياسة التي أحبذ. كل ما كنت أعلمه عن تونس التي أزور في الصيف، وأبي الصديق، أننا ديكتاتورية ظالمة.

حدثت الثورة وأنا بين ثلوج كامبريدج وبوسطن، منكبّة على بحوث جينية في المخبر. تابعت الأحداث من مكتب استقبال مدرسة الهندسة في الجامعة، حيث كنت أعمل في أوقات الفراغ. مدير عملي الصارم جداً سألني في أحد أيام جانفي سنة 2011 "أنت تونسية، لا؟ ماذا يحدث في بلدك؟" أتذكر جهلي يومها. بعد هروب بن علي، مكنّني من الاستماع إلى الأخبار بصوت عال رغم هدوء المكتبة. في تلك المكتبة اتصل بي أبي يبكي فرحاً بالثورة. في تلك السنة، شاركت مع صديق لي (سعودي، بالمناسبة) في تنظيم مؤتمر هارفرد السنوي الخاص بالعالم العربي. أتذكر كلمة الافتتاح، كتبتها وأنا أتحدث عن بلد لا أعرفه لكنني أحبه، وكم كنت فخورة. بعد التخرج، عدت إلى تونس لا السعودية، لأن ذلك هو الخيار المنطقي الوحيد حينها.

مرّت 9 سنوات و3 أشهر و8 أيام. لم أحسب الأيام؟ لأن الولادات تحسب هكذا.

الوطن هو ما نلد. تعلّمت هذا منذ ستة أشهر بالضبط.

لماذا أكتب هذا؟

بدأت الكتابة وأنا مقتنعة، ولكنني الآن أشعر بضجر وغيض شديدين لأنني لم أعط التفاصيل حقها، ولكنني أكتب احتراماً لمن يسأل، ولمن طلب مني التوضيح، ولكي أتذكر.


• من أجل ديمة. لأنني لن أسمح لها بأن تعيش في بلد لا يحترم خياراتها.

• ومن أجل أمي وأبي، اللذان صنعا سلّماً اجتماعياً لي ولإخوتي الثلاثة، لم يجداه في تونس حينها.

• ومن أجل زوجي، الذي بقي هنا لكي نصنع هذا السلّم معاً.

• ومن أجل من خرج وقلبه باق هنا، ومن بقي وعقله طائر.

• ومن أجل من يرى أن حياة الإنسان شأن عميق معقّد، وأنه على هذا الوطن أن يكون بحجمنا وأكبر، وأن نكون برحابته وأكثر.


*شيماء بوهلال : ناشطة بالمجتمع المدني

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات