في مديح الانتهازية الثورية : عشر وصايا ضدّ العقائدية اليساريّة !

إشارة :

كنت قد نشرت هذا النّصّ في أواخر سنة 2012 و لم يحصل معي حوله وقتها تفاعل كبير في تونس لأنّ اليسار التّونسي في عمومه وقتها كان يستعيد أحلامه الثورية القديمة. والان وقد وصل اليسار إلى ما هو عليه ، ومن باب " ربّ ضارّة نافعة " وبعد تفاعل البعض مع نصوصي الأخيرة حول ضرورة تجديد اليسار ، أعيد نشر النّصّ منقّحا من حيث الشكل ومزيدا من حيث المضمون لعلّ و عسى نفنّد جميعا قول إميل سيوران السوداوي حين كتب :

'' لقد أنقذ الانتهازيون الشعوب في الوقت الذي دمّرها فيه الأبطال.'' !

تصدير : من برودون إلى ماركس

" عزيزي السيد ماركس ،

دعنا نبحث سوية ، إذا رغبت ، عن قوانين المجتمع و الطريقة التي تتحقق بها هذه القوانين و الأسلوب الذي يمكننا أن نكتشفها من خلاله بنجاح . لكن ، لأجل الرب ، فقط بعد أن ندمر كل الدوغمائيات الأولية أو المسبقة ، لا تجعلنا نحلم بدورنا بأن نلقن الشعب عقيدة جديدة. دعنا لا نسقط في التناقض الذي اقترفه ابن بلدك مارتن لوثر الذي بعد أن أطاح باللاهوت الكاثوليكي ،و مع آعتماد آليات العزل و اللعنة الكنسية ذاتها ، شرع في نفس الوقت بإقامة الأساس لللاهوت البروتستانتي . ففي القرون الثلاثة الماضية ،كانت ألمانيا مشغولة بتفكيك إعادة التجبيس اللوثرية تلك، لا تدعنا ننحت للبشرية حالة احتياج مماثلة بحماقة مماثلة .

إنني أصفّق بكل قلبي لفكرتك عن أن نأتي بكل الأفكار تحت الضوء . دعنا ندير جدلا جيدا و مخلصا . دعنا نعطي للعالم مثالا عن التسامح العلمي و النّبيه . لكن دعنا لا نجعل من أنفسنا ، فقط لأننا على رأس الحركة ، قادة لتعصّب جديد . دعنا لا نكون في وضع أتباع دين جديد ، حتى لو كان ذلك الدّين دين المنطق ، دين العقل . لنرحّب بكل الاحتجاجات و لنشجعها . لنجفّف ينابيع كل إقصاء وكلّ الأضاليل . دعنا لا نستنفذ الجدل حول أية قضية . و عندما نستعمل حججنا الأخيرة ، دعنا نبدأ من جديد، إن لزم الأمر ، بطلاقة و سخرية ."

- جوزيف برودون، مقتطف من رسالة إلى كارل ماركس ، 17-05- 1846.

مقدمة : تنبيه ورجاء

-التنبيه :

ليس الهدف من هذه الوصايا التشكيك في القول "ان السياسة الوحيدة الصحيحة هي السياسة المبدئية " بل تعديله لأنه عندما يكون المبدأ نفسه خاطئا فيجب تغييره و بعد ذلك التمسك به.

ان الهدف منها اذن هو الولوج الى "العلبة السوداء" اليسارية عموما ( والماركسّية ـ اللينينيّة خصوصا ) و الى "الجهاز المناعي" الايديولوجي و السياسي اليساري المضاد للرأسمالية واعادة تركيبه بطريقة جديدة تجعله أكثر فاعلية.

انه بالإمكان اعتبارها "بيانا انتهازيا ثوريا" من اشتراكي ديمقراطي انسني يحاول الاعتبار من دروس البورجوازية المنتصرة مؤقتا و الاشتراكية المنهزمة مؤقتا من أجل "اعادة النظر في كل شيء" جذريّا.

ان هذا "البيان الانتهازي الثوري" هو ، مثل تأملات الهارب من منزل متهاو في شكل بيته الجديد، مختصر و متسرع ومع ذلك حالم . و هو لا يطمح ان يكون أكثر من اشارات يرسلها -ان أردتم- عميل "بورجوازي صغير" للعمال و الفقراء و الاشتراكيين من " داخل صفوف البورجوازية" ، فلا تبحثوا فيه عن " نقاوة ثورية" لا يبحث هو نفسه الا عن عكسها ، لأنه يأمل أن يثري "الخيال الثوري" ببراغماتية اشتراكية و يرسخ المبدأ القائل ان " كل الطرق (الثورية) تؤدي الى روما ( الاشتراكية)".

- الرجاء :

أرجو أن يساعد هذا المقال كل الاشتراكيين اليساريين الكلاسيكيين ،وحتّى القوميين 'الاشتراكيين العرب' و 'الاسلاميين الاشتراكيين ' و الاشتراكيين والاجتماعيين الديمقراطيين و غيرهم ، على تجديد طريقة تفكيرهم جذريا و أخص بالذكر منهم كل المفكرين في حزب يساري موحد أو جبهة يسارية موحدة ، اذ لن يكون هنالك من معنى للوحدة اليسارية في ظل الذهنية القديمة التي قد تخفت بسبب ضغوط خارجية و لكنها - تلك الذهنية - اذا لم تتغير فعليا فستعود الى السطح لتبعث التشرذم و التناحر من جديد .

1- في الانتهازية عموما :

لم ينجب التاريخ الى حد الآن طبقة اجتماعية ذكية مثل البورجوازية . و بما انه على الاشتراكيين الانتصار عليها ، لأن الرأسمالية ليست نظاما طبيعيا و لا جنة أرضية و لا نهاية للتاريخ ، فعليهم ، من ضمن أشياء أخرى، أن يكونوا أذكى منها.

و اذا كانت الحياة ، بمعنى ما، انتهازية ، فان الرأسمالية هي أكبر نظام انتهازي عرفه التاريخ بتعميقها عملية "ازاحة السحر عن العالم" و تغليبها المنطق النفعي- البراغماتي الذي يمكن هذا النظام من قوة رهيبة على التأقلم و التغير وبالتالي على الصمود.

و بما ان السياسة هي " فن الممكن" ،كما يقال ، فانه على علم السياسة ان يكون مزجا خلاقا بين النزعتين النظرية و البراغماتية في النشاط السياسي ، أي بعبارة أخرى بين المبدئية و الانتهازية السياسية . و اذا كان هنالك من درس اليوم لا بد من تعلمه بالنسبة للاشتراكيين و الشيوعيين فلعله يكون : ضرورة اعادة قراءة مكيافيل...يساريّا ثوريا.

لقد كانت اللينينية قد بدأت ذلك جزئيا بإعلانها ان الحركة الثورية الروسية يجب أن تكون مزيجا بين "حدة الذهن الألماني و النزعة الثورية الفرنسية و البراغماتية الأنجلو- ساكسونية". و قد أدخل لينين مواضيع جديدة الى الماركسية مثل "المسألة القومية" التي رفضها البيان الشيوعي ، و مدح التحالف مع الفلاحين الذين "انتظر" ماركس بلترتهم أساسا، ونظر بطريقة جديدة الى الوضع الثوري و لم ينتظر "الأزمة الثورية" كما رآها ماركس، بل انتقد "نظرية قوى الانتاج" و تلاعب بفكرة "الحلقة الأضعف" بحجة "التطور اللامتكافئ" الذي هو في الواقع قانون بشري منذ فجر التاريخ و ليس نتاج الامبريالية، الخ.

لكن اللينينية بقيت سجينة النسق في النهاية ، خاصة بعد تحولها الى نزعة عالمية بتأسيس الأممية الثالثة ثم بعد تحنيطها من قبل ورثة لينين، بل و يمكن القول ان اللينينية ، بنبوغها في نقد "الانتهازية اليمينية و الوسطية و اليسارية"، أدت في النهاية الى مزيد تحنيط الماركسية و تحويلها الى عقيدة شبه جامدة.

و اذا كانت هنالك نقطة لا بد من البدء بها لإعادة التفكير في كل شيء فإنها تحديدا مسألة الانتهازية.و لقد كان بإمكاننا الحديث عن "البراغماتية الثورية" عوض "الانتهازية الثورية" و لكننا تعمدنا العكس " لغاية في نفس يعقوب!".

ان لفظ الانتهازية لم يحمل في أدبيات اليسار سوى الشحنة السلبية. و قد ارتبط أحيانا بمعنى الخيانة في مدلولها الأخلاقي، بل و الديني حتى رأينا وصف بعض مفكري الماركسية غير العقائديين بعبارات مثل "يهوذا الاشتراكية" ( كاوتسكي) . ان هذا الوصف ، وان كان مجازيا في جانب ما ، كأنما يوحي بان المفكر أو المناضل الاشتراكي ، مثل الرسول أو التابع، يجب أن عليه يكون أما عقائديا ارثوذكسيا وامّا يصبح مرتدّا أو خائنا.

لكننا نؤكد ان عبارة الانتهازية ، في أصلها اللغوي ، أضافة الى شحنتها السلبية المرتبطة بالنزعة الفردية و الفئوية المناقضة لمصلحة الجماعة او الطبقة أو الشعب ، يمكن أن تحمل أيضا معنى ايجابيا ، بمعنى انتهاز الفرص ،التي لا تتوفر دائما، لتحقيق الهدف خلافا لما كان مسطرا من مخطط سابق ، و ذلك بتعديل المخطط تحت ضغط الواقع المخالف دائما للنظريات المسبقة و المليء بالصدف /الفرص الايجابية التي لا بد من انتهازها و لو تطلب ذلك تعديلا للمخطط النظري الأولي الموضوع من أجل تحقيق ذلك الهدف.

لكن ، حتى لا نفهم خطأ نضيف و نؤكد : ان أحقر أنواع البشر هو من يعتبر ان الحياة فرص لتحقيق الأهداف لا غير و لو كان ذلك على حساب أبسط المبادئ والقيم الانسانية ، و لكن في المقابل، فان أحمق الناس هو من يعتبر الحياة مبادئ وقيما فقط فيعجز عن انتهاز الفرص لتحقيق أهداف تساعد على الاقتراب من المصلحة الانسانية . بهذا المعنى الأخير، ان الانسان غير الانتهازي هو أحمق أنواع البشر لأنه يسجن نفسه في فكرة ما قبلية مسلمة و يتجاهل تعقد و حركة كل من الواقع و الفكر على حد السواء ، فيضيع من الفرص الكثير لتحقيق أهداف لا تناقض المبادئ بالضرورة، بل تساعد على الاقتراب منها على الأقل.

هنا لا بد من التفريق بين الانتهازية الاصلاحية و الرجعية السلبية من ناحية و الانتهازية الثورية التي نعنيها و التي هي انتهاز الفرص السياسية التاريخية لتحقيق الأهداف الجماعية ،أو الاقتراب الجماعي المشترك من تحقيقها على الأقل ،حتى لو كان ذلك بتعديل المخطط النظري الأولي الذي وضع لتحقيقها.

و مع الأسف، ان الأرثوذكسية اليسارية التاريخية كانت تمنع من المغامرة الانتهازية الثورية الايجابية ، الا ما ندر، بسبب الخوف من الوصم السلبي بالانتهازية ، فاختلط الابداع بالابتداع و التجديد بالانحراف - التحريفية و سيطر عقل أهل" السنة الصادقة" ضد "بدع" " النحل المارقة " اليسارية ايضا.

ان أول مهمة ثورية لا بد من تحقيقها الآن هي اذن اعادة الاعتبار النظرية و العملية للانتهازية الثورية الخلاقة المعادية للجمود العقائدي طالما بقي الهدف واضحا : نقد وتجاوز الرأسمالية.

قال فريدريك نيتشه: "ان أجمل ما في الديانات هراطقتها". و يمكن القول على اثره " ان أجمل ما في الاشتراكيات هراطقتها " أيضا : "انتهازيوها الثوريون".

2- في الانتهازية الطبقية

اذا كان أول ما يجب فعله هو اعادة النظر في مفهوم الانتهازية ، فان ثاني ما يجب فعله هو اعادة النظر في ما بموجب الابتعاد عنه يعتبر الانسان انتهازيا في نظر اليسار التقليدي.

ان البورجوازية طبقة اجتماعية واحدة و لكنها متنوعة التركيب و متحولة تاريخيا حسب تطور الرأسمالية . و يفترض ان يكون أمر الطبقة العاملة مشابها لها و لكن في الجهة المقابلة.

تتكون البورجوازية من شرائح زراعية و صناعية و تجارية و خدماتية، و اذا كانت البورجوازية التجارية هي الأقدم منذ عصور فان البورجوازية الزراعية و الصناعية ظهرتا مع الرأسمالية و تبادلتا الهيمنة النسبية داخل البورجوازية و تركتا المجال نسبيا للبورجوازية المالية منذ بدايات القرن العشرين. وها هي مجالات جديدة تظهر لرأس المال بعد الثورة الاتصالية.

في المقابل تتكون الطبقة العاملة أيضا من عمال الزراعة و البروليتاريا الصناعية و عمال التجارة و الخدمات . و قد تطورت هذه الشرائح مع البورجوازية في اطار الرأسمالية و لا تزال تتطور معها.

تعرف شرائح البورجوازية صراعات فيما بينها عكسها الاقتصاد السياسي البورجوازي من المركانتيليين و الفيزيوقراطيين مرورا بالكلاسيكيين و الكلاسيكيين الجدد وصولا الى كاينز و الاقتصاديين المعاصرين،الخ. و لكن الصراع بين شرائح البورجوازية ظل دائما محافظا على وحدة عالم رأس المال الا في ما ندر ( مثل التجربة الفاشية).

و لكن في المقابل ، فان التيارات الاشتراكية المتصارعة سرعان ما وضعت على جدول أعمالها تصفية "الانتهازية الاشتراكية" كشرط لتصفية الرأسمالية نفسها و دخلت منذ أواسط أربعينات القرن التاسع عشر في صراعات قاتلة دشنها خلاف ماركس مع بردون .

ان واحدا من أسباب هذا الصراع هو تقديس و عبادة "البروليتاريا الصناعية" على حساب بقية شرائح الطبقة العاملة و البورجوازية الصغيرة و الفلاحين. و لكن البروليتاريا الصناعية التي قدسها ماركس خاصة هي الآن بصدد الانقراض في الدول المتقدمة بحيث لا تشكل في بعضها حتى عشرة في المائة من اليد العاملة التي سيطرت داخلها شريحة أجراء قطاع الخدمات الذي أصبح في تلك الدول يساهم بنسبة ثمانين في المائة من الدخل القومي.

ان تصور البروليتاريا كآخر طبقة شعبية في التاريخ و توقع تطور عددها و فقرها (المطلق و النسبي) المستمرين و استنتاج اعتبارها قابلة التاريخ المستقبلي يعتبر تجاهلا لأبسط ملامح التطور التاريخي للرأسمالية المعاصرة ، حتى لو أخذنا المسألة في بعدها العالمي.

ان التطورات التكنولوجية و المعرفية و تطور قطاع البنوك و المؤسسات المالية الأخرى و الخدمات عموما ، هو قاعدة عالمية مع انها تلاحظ الآن أكثر في الدول المتقدمة بحيث يمكن القول ان النزعة البروليتارية الصناعية قد تصبح شعبوية جديدة تعول على "طبقة" هي بصدد الانقراض .

ان الطبقة العاملة واحدة و متنوعة و متحولة ، مثل البورجوازية، و من اللاتاريخية ربط مصيرها و مصير بقية الكادحين بشريحة منها قد تصبح أقلية في صفوفها الى درجة كبيرة.

ان البروليتاريا الصناعية – كما يقول بعض علماء اجتماع العمل وخاصة ألان توران مثلا - هي شكل تاريخي من الطبقات العاملة هيمن في المرحلة الصناعية الكلاسيكية. و يفترض الا نربط مصير العمال و الفقراء، بل و الانسانية ، بها حصريا.

ان أخطر ما في الأمر كذلك هو تصور هذه الطبقة و كأنها مقدسة و تجسد نموذج الطيبة الانسانية الأولية التي ستنبعث في نهاية التاريخ اذ ليست البروليتاريا الصناعية بالضرورة "النبي المنقذ و المخلص" و ليس من الثورية في شيء البحث عن "مهدي منتظر "آخر. وان المهم هو أنسنة و تأرخة مفهوم الطبقة الاجتماعية نفسه بشكل يسمح بتوحيد كل الأجراء من ضحايا الرأسمالية ضد عالم راس المال.

انه ليس من الاشتراكية في شيء الآن تجاهل الواقع التاريخي لتحولات عالم راس المال و العمل. و ان التاريخ ليس بالحتمية التي كان العقائديون يعتقدونها . و ليس هنالك من مانع في أن يحصل للرأسمالية في المستقبل ما حصل للاقطاعية : فبعد قرون من صراع الاقطاعيين مع الفلاحين الأقنان صعدت طبقة جديدة هي البورجوازية و أزاحتهما معا .

ان دروس الواقع و التاريخ تتجاوز كل العقائد "العلمية" الكلاسيكية . ليست البروليتاريا الصناعية "شعب الله المختار" و ليس من التيارات العمالية من يمثل "الفرقة الناجية" ووحدها المقاربة التاريخية الثورية الآن كفيلة بتوحيد و تنظيم و تحريك كل ضحايا الرأسمالية ضدها.

3- في الانتهازية الفلسفية والعلمية

ان البورجوازية الواحدة و المتعددة تسمح لأبنائها بتبني كل الفلسفات و النظريات البورجوازية الممكنة و بتطوير كل مدارس العلوم الطبيعية و الاجتماعية لتعمق معرفتها بالطبيعة و بالمجتمع الذي تقوده. بل انها تسمح حتى بتبني الفلسفات و النظريات الداعية الى هدم الرأسمالية جزئيّا و تستفيد من ذلك لتجاوز أزماتها و تجديد نفسها باستمرار.

ان البورجوازية تقدم نموذج الانتهازية المعرفية الأرقى في التاريخ . و في المقابل نرى الشيوعيين والاشتراكيين العقائديين يقدس كل منهم نظرية واحدة و يدعو الى تجريم تبني سواها يتهمه بالتحريفية و الخيانة و غيرها من الصفات.

ان الطبقة العاملة طبقة اجتماعية موحدة و متنوعة في نفس الوقت هي وباقي طبقات الشعب الفقيرة. و ان وجودها و تاريخها معقد و ثري أكثر من كل الفلسفات و النظريات التي تدعي تمثيلها و الحديث باسمها. ان من حق العمال و الأجراء و الفقراء الانفتاح على كل النظريات العمالية المستفيدة من العلوم الطبيعية و الاجتماعية لمعرفة وضعهم و الطبيعة و المجتمع والفكر حيث يعيشون و يناضلون ، فليست البورجوازية -مع أبنائها- أكثر حرية فكرية من العمال و الفقراء تجاه أبنائهم و لا يجب أن تكون .

ان الأحزاب العمالية و الاشتراكية عليها ان تكف نهائيا عن عبادة الفلسفة اليسارية الواحدة و الاقتصاد السياسي اليساري الواحد و الاشتراكية اليسارية الواحدة .

ومن المفارقات ان اليسار ،عندما يقيم أخطر أعدائه البورجوازيين مثلا ، ينبه الى أن خطورة المثقفين الانتهازيين منهم تفوق خطورة "الأرثودكس" لأن هؤلاء الأخيرين مفضوحون بتطرفهم بينما الأوائل لديهم قدرة أكثر على التضليل الفكري و العملي رغم انهم يهدفون، في نهاية المطاف، الى تحقيق نفس الهدف.

ان اليسار العقائدي ، بهذا المعنى ، هوأخطر أنواع اليسار و أكثره عرقلة لتحقيق الاشتراكية المتنوعة و المتعدّدة الأشكال لأنه يحول الى دوغما محنطة كلا من النظرية و الهدف و طريقة ووسائل تحقيقه و يدعي ان كل ذلك هو "المنهج الوحيد الصحيح" فيجمد تفكيره و يتجاهل حركة الواقع و الفكر . و عوضا عن التفاعل مع ما يستجد فيهما يرفض كل جديد فيهما الا اذا طابق النسق و يعتبر التجديد انحرافا عن "الصراط المستقيم".

ان ما يزيد من خطورة هذا التوجه هو اعلانه باسم العلم في الوقت الذي لم يسمع فيه يساري واحد في الكرة الأرضية كلاما عن فيزياء أو كيمياء أو جيولوجيا...انتهازية.

ان كل العلوم الطبيعية و الاجتماعية تسمح بطرح الفرضيات وبتعدد النظريات العلمية المختلفة، و لكن اليسار العقائدي لا يقبل الا فلسفة واحدة و يحول "الاشتراكية العلمية" الى ما يشبه العقيدة الجامدة ، مثل رجال الدين الأورثودكس، فيكون نسقا فكريا مغلقا حول الطبيعة و المجتمع و الفكر في لحظة تاريخية ما ثم يرفض كل جديد يخالفه تماما مثل السلفية ، ولكن السلفية الوضعية.

ان العمال و الاشتراكيين في حاجة أكبر من البورجوازية الى كل ابداع فلسفي و فكري و علمي . و ان العقائدية العمالوية هي أكبر خدمة تقدم الى البورجوازية لأنها ، رغم تطرفها الظاهر، تساهم في تجهيل العمال و استحمارهم و تحويلهم الى قطيع يفكرون بنفس الطريقة في الطبيعة و المجتمع و الفكر.

على العمال و الاشتراكيين اذن بالانتهازية المعرفية و النظرية الثورية التي هي مع كل ما هو علمي و نقدي في نفس الوقت. فالمهم هو الارتقاء بالوعي العلمي و النقدي الاجتماعي لكل ضحايا الرأسمالية الموحدين ضدها و لكن المتنوعين أثرى ما يكون التنوع الاجتماعي و المعرفي . و ليكن هذا التنوع داخل وبين الأحزاب و التنظيمات العمالية و الاشتراكية كلها حتى يصبح العمال و الاشتراكيون فعلا " الورثة الشرعيين لخير ما أبدعته الانسانية" فكريا ويمكنهم التوحّد التنظيمي الجبهوي-على الأقل- ان لم يكن الحزبي.

4- في الانتهازية السياسية و الحزبية

تسمح البورجوازية لنفسها ببرامج سياسية و أحزاب سياسية متعددة مختلفة و متنافسة و لا أحد ، الا في التجربة النازية، ادعى انه ممثلها الوحيد و أقصى البقية. و ان على العمال و الاشتراكيين تعلم هذا الدرس جيدا. فليست البورجوازية أكثر ديمقراطية مع أبنائها وشرائحها من الطبقة العاملة و لا يجب أن تكون.

على الاشتراكيين تقبل تعدد البرامج و الأحزاب العمالية و الاشتراكية المتنافسة على خدمة عالم العمل و على الحكم الاشتراكي حتى اذا فشل أحدهم ينجح الآخر و لا تسقط الطبقة العاملة و الاشتراكية بكاملهما.

ان الحديث عن حزب الطبقة العاملة الوحيد الصحيح و الطليعي لا يشبه – رغم اختلافه- الا الحلقة النازية الفاشلة في تاريخ التجربة الحزبية والسياسية البورجوازية .

ان البورجوازية الديمقراطية تسمح حتى بوجود أحزاب عمالية ثورية ، و لكن تقمعها ان اقتربت من الثورة، و هي تستفيد من ذلك أيما استفادة مثل استفادة الجسم من الجراثيم المعادية لتقوية المناعة. و يمكن للاشتراكية نفسها أن تسمح حتى بوجود أحزاب بورجوازية و تقمعها ان حاولت الثورة المضادة والارتداد بالقوة نحو الرأسمالية.

ان الأغلبية العمالية و الشعبية أقدر على القبول بأحزاب الأقلية اذ ليست البورجوازية أكثر ديمقراطية حزبية من العمال و ديمقراطيتهم الاشتراكية و لا يجب أن تكون.

ان الخطأ اليساري العقائدي الأكبر في مسألتي الديمقراطية الفكرية و الحزبية قد يكون نابعا من نسيان كون الأحزاب اليسارية هي بالأساس أحزاب سياسية.

ان اليسار العقائدي ، مثل رجال الدين الأرثودكس، يكاد يماهي بين كل مستويات الواقع و يطبق عليها جميعا "نفس المسطرة" متجاهلا الفارق بين الطبيعي و السياسي و الفكري و الاجتماعي و الثقافي بحجة "وحدة العالم". انه بذلك يقترف "خطيئة" التحول الى كنيسة دينية جديدة تطلب من أتباعها الاحاطة بنفس الطريقة بكامل الوجود فكريا و عمليا في نسق واحد مغلق يعبّر عن رؤية عقيدية للعالم .

ان اليسار العقائدي ، وهو يفعل هذا، يسلك مثل رجال الدين المتطرفين الذين يرفضون العلمنة التي هي ضرورة بشرية لرفض الاستبداد الشمولي من ناحية و استجابة لتطور تقسيم العمل الاجتماعي وتمايزه من ناحية ثانية.

ان اليسار بهذا يعيد انتاج النظام الشمولي باسم "وحدة العلم الوضعي" و باسم العمل على "الغاء تقسيم العمل" في جنة العلم و العدل الأرضية. و لكنه ينسى ان الحركة السياسية التي تسعى الى تنميط و توحيد مختلف مجالات الحياة وفق "علم أعم قوانين الطبيعة و المجتمع و الفكر" تقترف نفس حماقة رجال الدين الأصوليين الذين يريدون اخضاع البشرية و كل أنشطتها الى نفس المنطق اللاهوتي الديني رغم تنوعها و اختلافها.

ان محاولة اليسار العقائدي تعويض الشمولية الدينية أو الفاشية بشمولية "الاشتراكية العلمية" دليل على انه ليس سوى نسخة علومية من العقائدية لا غير.

ان الاشتراكية ليست دينا جديدا للعلم و العدل ، و ان أحزابها ليست كنائس جديدة و ان أريد لها أن تكون كذلك فبئس الاشتراكية و على العمال و الفقراء و البشرية السلام.

ان التنظيمات الاشتراكية هي بالأساس تنظيمات سياسية ، فلتستفد من العلوم على اختلافها و لتقدم من البرامج السياسية اليسارية الاشتراكية ما تريد . فلتتعايش الماركسية (واللينينية و الماوية و التروتسكية ...)و الفوضوية و المجالسية و الاشتراكية الديمقراطية اليسارية و غيرها، و لتتنوع و لينقد بعضها البعض...و لكن ، فلتتوحد ولتتعاون من أجل التحرر من الرأسمالية نحو أفق اشتراكي ديمقراطي انساني أرحب.

ان الدرس هنا هو ضرورة الاستفادة من من الانتهازية السياسية -الحزبية البورجوازية و تجنب الشمولية الفاشية لأنّ الاشتراكية يفترض أن تكون أكثر ديمقراطية سياسية و حزبية حتى من التجربة الحزبية البورجوازية الليبيرالية الأكثر ديمقراطية. فالمهم هو أن تكون تعددية اشتراكية تتجاوز الرأسمالية ، و في ذلك فليختلف المختلفون.

5- في الانتهازية النظامية و السلطوية

تقبل البورجوازية الديمقراطية بأشكال عديدة من الحكم مثل الحكم الجمهوري ( الرئاسي و البرلماني و ما بينهما) و الملكي البرلماني ، و تنظم الدولة وفق طرق الدولة الموحدة البسيطة و الفدرالية و الكونفدرالية،الخ. و على الديمقراطية الاشتراكية مساندة ذلك ضد الأنظمة غير الديمقراطية مثل الفاشية و غيرها مثلما عليها القبول أيضا بتعدد أشكال الحكم الاشتراكي و عدم تقديس شكل مجالس السوفييتات أو الكومونات الشعبية أو غيرها بشكل عقائدي.

ان المهم هنا هو القاسم المشترك اليساري الاشتراكي و لتعدد و لتتنوع الأشكال و الأجهزة حسب خصوصية و تجربة كل شعب ، و لتزدوج الأشكال بين تمثيلية وطنية و ديمقراطية مباشرة على المستوى المحلي ، وليتوقف الاشتراكيون عن نمذجة شكل حكمهم القومي و اعلانه أرقى الأشكال فالمهم هو المحتوى الاشتراكي للحكم .

و تقوم البورجوازية الديمقراطية بفصل السلطات بما يخدم مصالحها . و على الاشتراكيين مساندة ذلك ضد أنظمة دمج السلط الاستبدادية التقليدية والفاشية. و ليس حتميا على الطبقة العاملة أن ترد الفعل و تدمج بين السلط لبسط " دكتاتورية البروليتاريا" كما درج اليساريون على قول وفعل ذلك ، بل عليها بالعكس أن تفصل بين السلط بما لا يضر من مصالحها في الديمقراطية الاشتراكية. ان الفصل الاشتراكي بين السلط سيساعد الشعب على تجنب سيطرة حزب اشتراكي واحد عليها و يمكن من التعديل و التداول الاشتراكي الديمقراطي على الحكم و يجنب تكرار تجربة "المحاكم الشعبية" التي يسهل تحولها الى محاكم ظالمة توجهها المخابرات الحزبية لتصفية أبناء الثورة قبل أعدائها أحيانا.

ليس فصل السلط هو ما يجعل حكم البورجوازية بورجوازيا، بل سيطرة البورجوازية عليها، و ليس فصلها هو ما سيمنع من جعلها اشتراكية، بل عدم وصول العمال و الفقراء الى الحكم.

و تقوم البورجوازية بتفضيل النظام التمثيلي البرلماني لخدمة مصالحها .وعلى الاشتراكيين مساندة ذلك ضد أنظمة الحكم المطلق و الفاشي . و ليس على الطبقة العاملة أن ترفضه بالمطلق و تفضل النظام التفويضي الديمقراطي المباشر الذي قد يصعب تحقيقه الا في الدول المحدودة السكان – كما تفعل سويسرا الديمقراطية البورجوازية نفسها بشكل جزئي - بل بإمكانها المزج بين التمثيلية البرلمانية على المستوى الوطني و التمثيلية التفويضية المباشرة على المستوى البلدي و المحلي مثلا.

ليست البورجوازية اذن أكثر ابداعا في البحث عن أفضل تمثيلية سياسية ، فالعمال و الفقراء بإمكانهم ابداع اكثر النظم مرونة للبحث عن النظام الديمقراطي الاشتراكي المناسب. فالمهم هو الهدف : ضمان تمثيل الشعب و تجنب البيرقراطية من ناحية و الفوضى من ناحية ثانية.

انّ نمذجة شكل واحد من الحكم الاشتراكي يجب أن ترفض ، ولتتنوع الأشكال و تعدل و تتعايش... فالمهم هو تحقيق حكم الشعب بطريقة ديمقراطية اشتراكية قابلة للحياة وللتجدد.

6- في الانتهازية التحويلية و التثويرية

لأن البورجوازية طبقة أقلية في المجتمع ، و لأنها براغماتية بامتياز لم تنجز ثوراتها بنفس الطريقة حيث انتصرت. لم تتصرف البورجوازية بنفس الطريقة مع الطبقات القديمة و لا مع الطبقات الشعبية و لا مع جهاز الدولة القديم و لا مع المحيط الدولي...و مع ذلك فقد كانت النتيجة واحدة : سيطرة الرأسمالية.

ان الطبقة العاملة ليست اقل قدرة و براغماتية و ابداعا من البورجوازية، فلتجرب تنويع أشكال الانتقال الثوري حسب المجتمع و الظرف التاريخي .

و لكن العمال و الفقراء هم أغلبية المجتمع و هدفهم الاشتراكي الديمقراطي أنبل من أهداف البورجوازية الأنانية ، فليكن خيارهم المفضل جماهيريا و سلميا من خلال الانتخاب و الاضراب السياسي العام و العصيان المدني السلمي ان تطلب الأمر حتى لا ينسجن الاشتراكيون في ورطة تصورهم النظري عن الدولة فيحنطون الثورة التي تعبد البندقية لتعطي السلطة الى الأقوى دائما، ولكن ليس الى الأعدل بالضرورة كما بينت التجارب البيرقراطية الاشتراكية.

ان البورجوازيين كانت لديهم قبل وصولهم الى الحكم تصورات مختلفة عن نشأة الدولة و طبيعتها و تركيبتها و لا تزال عندهم أكثر النظريات تنوعا . و لكن كل ذلك لم يمنع البورجوازية من الاتحاد في الوصول الى السلطة و ادارتها.

ان الدولة مؤسسة اجتماعية مركزية تعمل الطبقات و الشرائح المتصارعة على التحكم فيها و لذلك يقال " ان المسألة الأساسية في كل ثورة هي مسألة السلطة السياسية". و مهما كانت الاختلافات النظرية بين الاشتراكيين بخصوص نظرية الدولة فان مهمتهم هي التوحد من أجل الوصول الى السلطة لتوجيه الدولة.

يمكن الاختلاف في تحليل الدولة بشرط عدم نسيان انها الآن بيد البورجوازية. فالمهم هو التوحّد من أجل فضح استثمار البورجوازية الطبقي لها و من أجل الظفر بها لادارة المجتمع الاشتراكي الديمقراطي .

ان توحيد الجماهير العمالية و الشعبية حول مخاطر الاستغلال البورجوازي للدولة ضروري وان دفعهم الى الظفر بالسلطة جماهيريا وشعبيا أكثر من ضروري حتى لا تستأثر الأقلية الثورية بالدولة و تحولها الى بيرقراطية اشتراكية. انذ تثمين قوة الجماهير الثورية السلمية أمر ضروري لأنّها ان تحرّكت أقوى من كل الأجهزة العسكرية و البوليسية .و من المهمّ عدم نسيان ان غلب العسكريين و الأمنيين من أبناء العمال و الطبقات الفقيرة و المتوسطة. و لذلك فليكفّ الاشتراكيون عن عبادة نموذج الانتقال الثوري المسلح الذي أعطى السلطة للبيرقراطية العسكرية و البوليسية في كل التجارب الاشتراكية التاريخية -دون عبادة نقيضه آليّا - و المهم هو النتيجة: السلطة الاشتراكية الديمقراطية.

7- في الانتهازية المهنية و النّقابية

للبورجوازية نقاباتها المهنية المستقلة عن الأحزاب البورجوازية المختلفة . وهي تسهر على المصالح المهنية الطبقية الموحدة للطبقة . و مهما تنافست و تصارعت الأحزاب فيما بينها و تغير الحزب البورجوازي الحاكم تبقى نقابات الأعراف موحدة صامدة غالبا و ان تأثرت بمحاولات تسييسها.

في المقابل تتعاون الأحزاب العمالية و الاشتراكية ، دون أن تشعر أحيانا، مع البورجوازية في فرقعة النقابات العمالية و تقسيمها و ذلك بكثرة تسييسها الحزبي المباشر خاصة.

ان النقابات العمالية هي القاسم المشترك المنظم للوحدة المهنية الطبقية للعمال مهما تعددت المهن و الشرائح و الرؤى السياسية . و بما أن البورجوازية ليست أكثر حرصا على وحدتها المهنية الطبقية من الطبقة العاملة ، فلتركز النقابات العمالية على الجانب المهني بالأساس لتبقى موحدة مهما اختلف العمال و الأجراء ، و لتقم الأحزاب السياسية الاشتراكية بالدور السياسي المباشر خارجها كلما توفّر المناخ لذلك ؛ في الفضاء العام السياسي ان كانت به هواش ديمقراطية.

ولكنّ وحدة و مهنية النقابات العمالية ليست مطلوبة فقط في النظام الرأسمالي، بل كذلك في النظام الاشتراكي حتى تشكل قوة ضغط مهني مستقلة نسبيا على مختلف الأحزاب الاشتراكية التي قد تتداول على الحكم الاشتراكي نفسه. و ليكف الاشتراكيون عن شتم النقابيين المهنيين بالإصلاحية طالما ان الاصلاح يمكن أن يؤدي الى الثورة التي تواصل الاصلاحات و بشرط ان لا تكون مجرّد انجازات رابطية مهنية (كوربوراتية) تخدم فئة على حساب مجموع الطبقة و الأجراء و أن لا ترتبط بالمصلحة البيرقراطية النقابية.

ان الطابع المهني للنقابات ليس عيبا في حد ذاته اذ هو يدخل في باب تقسيم الوظائف بين تنظيمات العمال المختلفة و التي لا يجب تحويلها كلها الى تنظيمات سياسية تخدم رؤى و مصالح حزب اشتراكي بعينه مهما كانت رؤاه ومصالحه ثوريته.

ان النزعة النقابية مطلوبة، و هي ليست بالضرورة "انتهازية اصلاحية" كما يعتقد البعض من اليساريين العقائديين الذين يبالغ البعض منهم ليطلب تكوين "النقابات الحمراء" التي تصبح تابعة للحزب عندما يكون في المعارضة و تبقى كذلك عندما يصبح في السلطة فتتحول الى أجهزة هيمنة الحزب الواحد الحاكم على العمال و الشعب مهما أخطأ أو استبد.

ان النزعة النقابية ليست بالضرورة ضارة للعمال بل هي أحيانا مفيدة في نقد العماليين و الاشتراكيين أنفسهم . و ان المناضلين النقابيين ليسوا أقل قيمة من المناضلين السياسيين اذا حافظوا على وحدة الطبقة العاملة المهنية و ناضلوا من أجل تحسين ظروفها المهنية الطبقية العامة.

لتبق النقابات العمالية مهنية طبقية موحدة ولينخرط أعضاؤها كما أرادوا في الأحزاب السياسية و ليختلف المختلفون سياسيا من الاشتراكيين كما أرادوا في الرأسمالية و الاشتراكية على حد السواء ، فليس من ضرر على النقابات العمالية أكبر من تقسيمها أو من رهنها بتصور تيار اشتراكي واحد يدعي انه الثوري الوحيد الصحيح.

8- في الانتهازية الطبقية الصغرى و المتوسطة

لم تضر طبقة اجتماعية في التاريخ بالطبقات الوسطى الزراعية و الحرفية و التجارية كما أضرت بها البورجوازية التي ،ان لم تقض عليها ، أغرقتها بالديون و الرهون. و لم تسئ الى قضية تحالف الأجراء مع الطبقات الوسطى نظرية أكثر من تلك التي كانت ترى الفضاء الطبقي الاجتماعي و كأنه ساعة رملية تتجه الطبقات الوسطى فيها حتما للذوبان اما (الأقلية) في البورجوازية الكبيرة أو (الأكثرية) في البروليتاريا الصناعية تحديدا، بينما أثبت التاريخ ان الطبقات الوسطى تتجدد مع تجدد قطاعات الاقتصاد في الرأسمالية و تصمد عبر التاريخ.

ليس للعمال و الفقراء مع الطبقات الوسطى من مشكل كبير في الرأسمالية لأنهم يعرفون ما يعانونه من البورجوازية الكبيرة . و لا يجب أن تكون معهم مشاكل كبرى في الاشتراكية الديمقراطية التي لا يجب أن تكرر خطأ عبادة الانتاج الكبير ، المؤمم والتعاوني، كما فعلت الاشتراكيات التاريخية - وخاصة الستالينية - بل عليها أن تحافظ على الملكية الصغيرة و المتوسطة التي تسهل على المجتمع و الدولة مهاما كثيرة و تلعب دورا كبيرا في التجديد و الاختراع وغيرهما بشرط هيمنة الاقتصاد الاشتراكي على المجتمع .

لا يجب أن يكون عند العمال و الاشتراكيين خوف من الطبقات الوسطى و ملكيتها الخاصة، وليتذكر الجميع ان الملكية الجماعية لوسائل الانتاج ليست هي 'الحل السحري' للقضاء على الاستغلال دائما لأن الحيازة الخاصة لقوة العمل (الذكاء و القوة و المهارة) و للإدارة و الموقع الحزبي و النقابي و التعاوني و غيرها قد تكون أخطر بكثير أحيانا كما بينت ذلك تجارب البيرقراطية الاشتراكية .

ألم تتعايش الملكية الصغيرة و المتوسطة الخاصة قرونا مع العبودية و الاقطاع و النمط الآسيوي و الرأسمالية دون أن تشكل ضررا لها؟

فلماذا تصور انها أكبر ضرر على الملكية الاشتراكية؟

انّ التّحالف مع الطبقات البورجوازية الضغرى و المتوسطة في النضال ضد الرأسمالية الكبيرة يجب أن يعاد تثمينه . ولتبق الملكية الصغيرة و المتوسطة في الاشتراكية طالما لا تضر بنظام الانتاج و التبادل و التوزيع و الاستهلاك الاشتراكي الديمقراطي ، و لتقم السلطة الاشتراكية بتنظيم ذلك من خلال سياسات تحديد الملكية و الاسعار و الأجور والمراقبة العمالية و الضرائب و تشجيع المشاريع التعاونية و غيرها.

9- في الانتهازية التقنية و المثقفية

لم توجد على مر التاريخ طبقة اجتماعية استثمرت العلماء و التقنيين و المثقفين كما فعلت البورجوازية. و لم توجد على مر التاريخ نظريات ذمت التقنيين و المثقفين البورجوازيين الصغار كما فعلت بعض النظريات الاشتراكية .

ليست البورجوازية أكثر حرصا من الطبقة العاملة على العلم و التقنية و الفكر و الفن و لا يجب أن يكون عند العمال أي خوف من البورجوازية الصغيرة المثقفة، بل بالعكس، أذ معهم يتحد الفكر بالساعد فيتوحد عالم العمل الخلاق .و بحريتهم في الاختراع و التفكير، بما في ذلك في الماورائيات نفسها ، و الابداع و التعبير و النشر و غيرها تتوفر كل امكانيات النهوض بالمستوى الثقافي للأجراء و عموم الشعب. و رغم ان المثقفين لم يكونوا يوما موحدين فان من مهام الاشتراكية الديمقراطية جذب خيرتهم المفعمة بالنزعتين العلمية و الانسانية.

ان الحركة الاشتراكية الديمقراطية الانسانية ، ككل حركة اجتماعية كبرى، ليست سوى عبارة عن تفاعل و تحالف قسم من المثقفين مع عموم الأجراء و الفقراء . و ان الطبقة العاملة و عموم الشعب أكثر حرصا على التحالف مع المثقفين الذين يرمزون الى العين الثانية - مع العمل البشري - لأنبل ما أبدعته البشرية من علوم و فلسفات و فنون تعبر كلها عن أعمق ما في الانسان من انسانية خلاقة فعليا ولا يمكن تركهم للبورجوازية التي تعرف من أين تأكل كتفهم.

وللتذكر، ان الرأسمالية في مرحلتها الامبريالية ليست بالضرورة "رجعية علمية" كما بالغ لينين في ذلك - مثلما بالغ في ربط "المزاحمة الحرة بالديمقراطية" و "الاحتكار بالرجعية السياسية"- و لكنها و هي تطور البحث العلمي و التقني و الفكري بعمق و بوتيرة سريعة، ترهنه بمصالح ضيقة و تحرم عموم الانسانية أحيانا من أكثر الاكتشافات ضرورة بسبب سياسة الربح الناتجة عن تبضيع العلم و التقنية و الفكر و الفن.

ان الحركة الاشتراكية الديمقراطية هي الآن في أمس الحاجة الى "كتلة تاريخية" ديمقراطية جديدة و لكن غير "عضوية" بمعناها الكلاسيكي بين المثقفين و العمال و عموم الشعب لأجل ثورة ثقافية انسانية جديدة تماما بسبب الويلات التي تعرفها الانسانية من الرأسمالية و بعد فشل عقائدية الاشتراكيات التاريخية التي دمرت أحيانا ابداعية المثقف و حنطتها باسم "حزبية العلم" و "الواقعية الاشتراكية" و غيرها . و اذا كان المسيح قد قال "اتركوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر" و ساعد ذلك، على ما يبدو ظاهريا ، في تحقيق العلمنة لاحقا، فإننا نقول وراءه للاشتراكيين " اتركوا ما للعلماء والمثقفين للعلماء والمثقفين و ما للسياسيين الاشتراكيين للسياسيين الاشتراكيين " فان ذلك يطور السياسة الاشتراكية و العلم و الثقافة معا و احذروا الأنساق الفكرية العامة و المغلقة التي تسجن الجميع لأنّ العلم و الفنّ وغيرهما لا يمكن أن ينسجنا في شرنقة ايديولوجية عقائدية واحدة وينفلتان دائما في نهاية المطاف في اتجاه الحرّية الاكتشافية والاختراعية والابداعية.

انّ مواصلة التمسك بالعقلية و المسلكية اليسارية العقائدية القديمة يعتبر كارثة على الحركة الاشتراكية قبل وبعد وصولها الى السلطة،هذا ان وصلت اصلا.

10- في الانتهازية القيمية والمُثليّة

لم يعرف التاريخ طبقة اجتماعية أكثر براغماتية – نفعية من البورجوازية حتى و ان حاولت أحيانا احاطة نفسها بهالة من المثل . و لكن ، في المقابل ، لم يعرف التاريخ الحديث نظريات أكثر مثالية و طوباوية من بعض النظريات الاشتراكية و الشيوعية خاصة.

ليس على الطبقة العاملة ان تعد نفسها أو غيرها بأنها ستحقق نهاية "ما قبل التاريخ" و تبلغ خاتمته السعيدة حيث تنتفي كل التناقضات الاجتماعية بين الطبقات و بين العمل اليدوي و الفكري و بين المدينة و الريف و بين الشعوب و الأمم ،الخ و حيث ستتحقق كل حاجيات الانسان " من كل حسب عمله و لكل حسب حاجاته" و تنتفي الدولة و غيرها من اليوطوبيات.

ان الاشتراكية الديمقراطية انسانية و سيرتقي الانسان فيها جذريا مقارنة بالرأسمالية بضمان أكثر لحقوقه المختلفة في اطار نظام -ملكية و انتاج وتبادل و توزيع و استهلاك - اشتراكي جديد . و الاشتراكيون ليسوا أنبياء جددا بشرون بدين جديد ويعدون بالجنة الأرضية و لا يبيعون صكوك الغفران لأحد .انّهم يعدون فقط بمجتمع جديد مقارنة بالمجتمع الرأسمالي ولكنه لا يعد بتحقيق الخلاص النهائي لأنه لن يتخلى لا عن تقسيم العمل ولا عن الدولة و لا عن الأجر ، و لكن سيعطي كل هذا محتوى اجتماعيا اشتراكيا و تعاونيا انسانيا ما أمكن.

وان المناضل الاشتراكي ليس ملاكا مقدسا ولا نبيا حاملا للحقيقة المطلقة بل هو انسان يمارس السياسة المدنسة و يدافع أكثر من غيره عن نسبية الحقيقة. انه يطمح فقط لأن يكون نموذجا متواضعا للإنسان المدافع عن العمل و العلم و العدل و الأخوة الانسانية ضد كل أشكال الاستغلال الاقتصادي و الاستبداد السياسي و التمييز الاجتماعي و الاغتراب الثقافي دون وهم المخلص الذي يحمله البعض عن نفسه ، و دون أي وهم حول الطيبة الانسانية الطبيعية نفسها. و هو لذلك لا يعد الا بما يمكن الأمل في تحقيقه لأن "الانسانية لا تطرح على نفسها الا المسائل التي هي قادرة على حلها" الآن، و لتأمل أجيالها المقبلة في تحقيق ما تريد، بما في ذلك شيوعية جديدة ان استطاعت لكنّها لن تتحول بذلك الى حركة رسولية أو مهدوية خلاصية لأن التاريخ سيبقى مفتوحا بما في ذلك على الكوارث البشرية .

خاتمة : روحية الانتهازية الثورية

أخيرا ، حتى لا تفهم هذه الوصايا العشر خطأ على انها 'ديانة اشتراكية جديدة' بل ، و دفاعا عن يهوذا الإسخريوطي الذي ـ حسب بعض التأويلات ـ لولاه لما اكتملت نبوؤه المسيح عيسى ، لم أجد أروع من قول لادغار موران في فقرة معنونة "الانجيل المضاد للانجيل" أختم به قاصدا " الإنجيل اليساري" هنا ومضيفا ما هو بين قوسين لأوضّح مقاصدي :

كتب موران:

" لا تعتقدوا أبدا،

ـ في الحقائق (اليسارية) المطلقة و المتعالية

ـ في الله (اليساري : التاريخ ذي الحتمية التاريخية )

ـ في العلم ـ الحقيقة (اليسارية)

ـ في العقل المؤله (اليساري)

ـ في(...) الخلاص (اليساري) على الأرض

و لكن اعتقدوا

ـ في الماـ وراء (ما وراء الإقتصادي) و الغريب ( المجهول من الطبيعة والمجتمع والفكر والتاريخ... )

ـ في الحقائق( اليسارية) الموجودة في الزمان و المكان

ـ في العلم (اليساري) الباحث عن الحقيقة و المناضل ضد الخطأ

ـ في العقل( اليساري) المنفتح على اللامعقول و المناضل ضد عدوه اللدود : العقلنة النّسقية (بما فيها النسقية اليسارية)

ـ في الحقائق (اليسارية)القابلة للموت و المتلاشية و الهشة : الحيّة

ـ في امتلاك حقائق(يسارية) معقدة تحتوي الشكّ

ـ في الحبّ و الحنان (اليساريين)

ـ في لحظات الفرح العارم، الفردية و الجماعية (اليسارية) المرتبطة دائما بالحبّ و الأخوّة

ـ في الانسانيّة (أو البروليتاريا) ، دون الاعتقاد (شبه الدّيني ـ اليساري ) فيها ."

ادغار موران ، من أجل الدخول في القرن الواحد و العشرين ، سوي، باريس، 2004، صص:292- 293

وآخرا ، لا تنسوا :

-لقد أعلن موسى الوصايا العشر و لكن داوود هو من كان رمز الملكية عند بني اسرائيل.

-و لقد قتل المسيح و هو في ريعان شبابه و تاجر القياصرة بدينه بعد أربعة قرون .

-و لقد مات ماركس غريبا فقيرا و لكن لينين بنى الاتحاد السوفييتي.

-أما الرسول محمد فقد تمسك برسالته الى آخر لحظة و لكنه ناور وداور و بنى دولته و مات في الثالثة و الستين.

وهكذا، لو أّن اليسار الجديد أدرك جدوى أن يكون انتهازيا بالمعانى الايجابية أعلاها فسوف يمكن لأحد قادته اليساريين ذات يوم أن يقول ، ولكن بمضمون يساري جديد ، ما قاله القائد الجمهوري الليبيرالي الفرنسي ليون غامبيطا ذات يوم معبّرا عن انتهازية البورجوازية الليبيرالية التي تتفوق بها عن غيرها الى حدّ الآن :

" لعلّكم ستتّهمونني بالانتهازيّة. أعرف أنّ الكلمة فظيعة . ولكنّني سأدفع بالجرأة أكثر لأقول انّ هذا المصطلح الفظّ يخفي سياسة حقيقية ".

"يا انتهازيي اليسار الثوريين ، اتحدوا ! "

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات