دردشة يسارية تونسية حول طبيعتي 'الشخصية التونسية' و 'المجتمع التونسي' على هامش ما قاله د. الهادي التيمومي في برنامج ' للتاريخ'

اهداء : الى الدكتور الهادي التيمومي

شاهدت الحلقة الأخيرة واستمتعت بها وضحكت معها أحيانا على تونسيّتي . ولكنني كنت أعمل عقلي النقدي أيضا في خطاب يقول عن نفسه أنّه خطاب ماركسي أخير- دون أن يكون 'امبراطورا أخيرا' في اشارة الى فلم 'بو يي' الشهير- وفي بعض التعليقات ،مدحا وذمّا ، التي مرّت أمامي على صفحات بعض الرفاق اليساريين . وأودّ في هذه الدردشة التعرّض -الجزئي فحسب، ولكن المكثّف - الى نقطتين أساسيتين هما طبيعة الشخصية التونسية و طبيعة المجتمع التونسي من زاوية علاقتهما بالماركسية تحديدا وذلك بهدف تبيان حدود الماركسية نفسها و -لا تسل عن - حدود تمثلها عند اليسار التونسي!

أ- طبيعة الشخصية التونسية:

ان الحديث عن وجود طبيعة ما للشخصية التونسية هو في حدّ ذاته انتباه لحدود الماركسية الكلاسيكية تحديدا. ولم يقنعني د. الهادي التيمومي عندما سأله برهان بسيس في بداية الحلقة عن تهمة 'الجوهرانية الثقافوية" عندما اكتفى بالإجابة أنه ماركسي وكان ينتظر التهمة التي اكتفى بنفيها دون حجج.

ان مفهوم طبيعة الشخصية الوطنية أو القومية و ان تطور حديثا بعد أعمال علماء النفس الاجتماعي و علماء الدراسات الثقافية الأمريكيين وخاصة بعد أعمال ابرام كاردينار عن الشخصية القاعدية أو الأساسية هو مفهوم به جانب ماهوي ثقافوي فعلا . وكان من الأجدر بالدكتور الهادي التيمومي أن يميز بين الماهوية و البنيوية للخروج من المأزق. فالشخصية الوطنية قد تكتسب بنية مستقرة نسبيا في مراحل من التاريخ تبقى بها تناقضات ( بين شخصية التاجر/ البحار وشخصية الفلاح ) و قابلة للتحول كما أشار الى ذلك د.الهادي التيمومي نفسه في خصوص الشخصية التونسية.

ولكن السؤال اليساري الأخطر هنا هو التالي: هل الماركسية الكلاسيكية كانت تحتمل الحديث عن طبيعة الشخصية الوطنية؟

لا، ماركس دشن ذلك الرفض مع أنجلز في كتابيهما "الايديولوجيا الألمانية" .لقد كان ذلك الكتاب تحديدا محاولة في نقد ما استقر في الفكر الألماني من المدرسة الرومنطيقية عن خصوصية "الروح الألمانية" أو "الروح الجرمانية" الخاصة. في المقابل كتب ماركس ذات يوم بعد جولة في لندن بأنجلترا "يوجد أمّتان هنا" في اشارة الى الأغنياء و الفقراء.

اضافة الى هذا،يعرف اليساريون أن ماركس وأنجلز لم يتركا نظرية في الأمّة و ان ذكراها في تحاليلهما. لذلك كان اليسار الروسي مثلا مضطرا الى التأسيس النظري لهذه المسألة فكان كتاب ستالين " الماركسية و المسألة القومية" محطة هامة في ذلك جعلت كاتبه يصبح أول مفوّض لشؤون القوميات عند تأسيس الاتحاد السوفياتي. ولكن ستالين استفاد كثيرا من الاشتراكيين الديمقراطيين النمساويين تحديدا في نظريته القومية،و هؤلاء في الواقع كانوا يعيدون تنظير التصور الرومنطيقي عن "الروح القومية" بطريقة جديدة يسارية لا غير.

و من المهم هنا -يساريا- الاشارة الى أن ستالين تحدث عن وحدة الخصائص القومية عند الأمّة فذكر منها "الوحدة النفسية-الثقافية" أو ما يسميه النمساوي اوطو باور"الطابع القومي" .

ولكن ما تجاهله اليسار الروسي و يتجاهله اليسار التونسي كون التنظير للأمة ارتبط باعتبار اللغة و الخصائص النفسية الثقافية عناصر لا تنتمي لا للبناء التحتي و لا للبناء الفوقي مثلما لا تخص طبعة اجتماعية بعينها و انما هي عناصر مشتركة لكل طبقات الأمة.وقد وضح ستالين ذلك لاحقا بشكل مباشر في كتابه "الماركسية ومسائل علم اللغة".

ماذا يعني هذا يساريا ؟

العلوم الانسانية و الاجتماعية الحديثة كلها تعتمد مفاهيم 'الشخصية القاعدية" و "الشخصية الوطنية " أو "الشخصية القومية" - سنبتعد عن نقاش الأمة التونسية والعربية هنا - و على اليساري النزيه أن يعتبر أن لينين وستالين وماوتسي تونغ - الذي يتحدث عن وجود الأمة الصينية منذ آلاف السنين في كتاب 'الحزب الشيوعي الصيني والثورة الصينية' - يخالفون الماركسية الكلاسيكية لماركس وأنجلز لأن الأخيرين لم ينظرا لفهوم الأمة ولم يعترفا في أي يوم بوجود عناصر خارجة عن كل من البناء التحتي و الفوقي وعن الطبقات الاجتماعية ووعيها الاجتماعي الطبقي.

وان ثاني استنتاج يأتي بعد ذلك هو اعادة النظر في مركزية الصراع الطبقي في التاريخ ليس بهدف انكاره، بل بهدف تنسيبه.

أما ثالث استنتاج فهو أن اية محاولة لإنقاذ الماركسية -كنسق فكري ارثوذكسي- لم تعد مجدية، حتى لو اعتمدنا غرامشي نفسه ، بدليل أن هذا الأخير جاء في صف ستالين وهاجم بوخارين عندما كتب الأخير كتابه الشهير حول 'علم الاجتماع و المادية التاريخية' محاولا تجديدهما.

ان أحد أهم ما وصل اليه ماركس وأنجلز في كتاب الايديولوجيا الألمانية -و هما ينقدان ماكس ستيرنر تحديدا- هو قولهما الشهير "ان الفرد هو أولا وقبل كل شيء عضو في طبقة اجتماعية" ولذلك قالا في "بيان الحزب الشيوعي" سنة 1848 أن "العمال لا وطن لهم".

ان الماركسية الكلاسيكية - وأؤكّد بوصفها نسقا - هدمها اللينينيون-الستالينيون-الماويون... أنفسهم بحجة تطويرها وهي انتهت بوصفها كذلك - أي نسقا- ولكنها ستبقى جزءا مهما من الفكر الانساني التحرري ذي المصداقية الايتيقية خاصة ( الدفاع عن قيم الحرية والعدل والمساواة ...) كما ذكر ذلك ماكسيم رودنسون مثلا.

نعم،اذن، يمكن اعتماد مفهوم 'الشخصية الوطنية ' -كما يمكن اعتماد مفهوم الشخصية وتحليل الفرد بها في علم النفس الفردي - على شرط تجنب الجوهرانية الثقافية وعلى شرط الاعتراف بأن ذلك يعتبر بحثا 'ما بعد-ماركسي ' علميّا.

ب - طبيعة المجتمع التونسي :

بداية،لا بدّ من القول أنه لم توجد في تاريخ اليسار التونسي الحديث مسألة دمّرته -دون داع- أكثر من مسألة "طبيعة المجتمع" هذه و هو -يا للمفارقة- يتوهم أنّها 'الحل السحري" الذي سيحييه. وللتدليل على هذا أكتفي بالملاحظتين التاليتين:

أ- كل اليسار الفرنسي -مثلا- يعتبر أن طبيعة المجتمع الفرنسي رأسمالي امبريالي ومع ذلك لم يتّحد يوما.

ب- تدل الانقسامات الأخيرة لليسار التونسي -انظر مثلا قسمي 'الجبهة الشعبية' من اليساريين- على أن الانقسام لا يقع بسبب 'طبيعة المجتمع' بدليل وجود أنصار "الشبه مستعمر -شبه اقطاعي- و 'الرأسمالي التابع" في كل واحد من الشقوق المنفجرة بعد الجبهة.( الوطد الموحد شبه-شبه مع رابطة اليسار العمال رأسمالي تابع - الوطد الاشتراكي شبه-شبه مع حزب العمال رأسمالي تابع... ).وهذا يدل على أن الاتفاق أو الاختلاف على 'طبيعة المجتمع' قد -و أقول جيّدا قد - لا يعني شيئا كبيرا في الحقيقة.

ولكن لم توجد هذه المفارقة في تونس؟

لأن اليسار التونسي - ونترك مسألة الزعاماتية وغيرها وهي مهمة جدا ونهتم بأمر نظري- هو يسار علموي - اقتصادوي رديء جدا .

ان اليساري التونسي يعتقد أن 'الاشتراكية العلمية' صحيحة مثل الفيزياء الذرية بحيث يعتقد أنه مثلما ينجح الفيزيائي في التحكم في الذرة و تغييرها لو عرف طبيعتها ، يمكن للماركسي-اللينيني لو عرف طبيعة المجتمع أن ينجح في تثويره وكأن المجتمع هو بالأساس اقتصاد. وفي الواقع يعود هذا الى ماركس نفسه الذي اعتبر في مقدمة مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي و احدى مقدمات رأس المال أنه من الممكن لعلم الاقتصاد السياسي -دون غيره من علوم الانسان- أن يعطي نتائج مثل نتائج العلوم الطبيعية. و المصيبة أن اليسار التونسي لم يراجع حتى رسائل أنجلز الأخيرة حول المادية التاريخية ولم يستفد من غرامشي وقبله من لينين الذي انتقد -بحدود ما- سنة 1916 ما سماه "الاقتصادوية الامبريالية" عند تحليل مسألة "حق الأمم في تقرير مصيرها" مشيرا الى أعمال أحد مناضلي الحزب المسمى كييفسكي.

و ماذا عن "طبيعة المجتمع "التونسي هذه الآن؟

هي الآن فعلا رأسمالية -سمها تابعة أو كولونيالية أو شبه استعمارية أو محيطية أو ما شئت- وهنا مع د. الهادي التيمومي كل الحق. و لا بدّ من تنبيه جماعة "الشبه-شبه" الى أن الدكتور التيمومي قال ان تلك مسالة تاريخية وحصلت تحديدا أواخر السبعينات بعد تجربة الهادي نويرة. وبهذا المعنى يمكن ايجاد عذر للجيل القديم من أنصار الأطروحة لأسباب عديدة . ولكن الأهم الذي يجب قوله الى دعاة 'الشبه-شبه' الآن هو ما سنختصره في النقاط الخمس التالية :

1-لا يتعلق الأمر بأي مديح للامبريالية لأن الرأسمالية هذه تابعة وهي ذات خصوصية ضعيفة في التركيبة العضوية لرأسمالها و بالتالي متخلفة.

2-لا يتعلق الأمر بتطوير قوى و علاقات الانتاج الوطنية -أؤكد الوطنية و المستقلة- بل بقوى و علاقات انتاج وتبادل تابعة هي الأخرى وضعيفة.

-لاحظوا أنكم اذا رفضتم القبول بأي شكل من أشكال تطور قوى وعلاقات الانتاج -غير الوطنية المستقلة هنا- فأنتم ترفضون قانون الحركة -التابعة هنا- في المادية الجدلية و كذلك قانون تطور قوى الانتاج وعلاقاتها -التابعة هنا - في المادية التاريخية !

3- من مظاهر تبعية وضعف هذه الرأسمالية كونها تترك مجالا مهما للملكية الفردية الصغيرة الفلاحية والحرفية والتجارية - بسبب ضعف التراكم- ولكن ذلك لا يعني سيطرة شبه الاقطاع لان الملكية الصغيرة هي شكل من الملكية الذي يمكنه أن يتعايش مع الملكيات العبودية والاقطاعية والرأسمالية وحتى الاشتراكية الكبيرة ولكنه يخضع لها غالبا في نهاية المطاف.

4- ثم ان سيطرة الملكيات الصغرى 'شبه-الاقطاعية' ،فرضا ، في الريف تحديدا لا يعني سيطرتها في المجتمع -كي تحدد 'طبيعة المجتمع ' بكامله- الا اذا أثبتنا أن الزراعة هي القطاع المسيطر في الاقتصاد وأن اليد العاملة الزراعية تتفوق عددا على اليد العاملة الصناعية والتجارية والخدماتية عموما وأن القسم الأكبر من الناتج 'الوطني' يأتي من الزراعة، وأن عدد سكان الريف أكبر من عدد سكان المدن ،الخ. وهذا ليس موجودا في تونس الآن.

5-وأخيرا - ونربط مع د. الهادي التيمومي حول 'المخامسة' هنا- لا يفرّق أغلب دعاة 'الشبه-شبه- بين المخامسة الاقطاعية - أو ما قبل الرأسمالية عموما- و المخامسة الرأسمالية لأنّهم لا يعون تطور ظاهرة المخامسة الاقتصادية نفسها ضمن العلاقات الاجتماعية العامة. ويرجع هذا الخلط الى عدم تمييز نظري اقتصادي بين أمرين:

أ- بين الرّيع العيني و الأجر العيني : فالريع العيني (أربعة أخماس هنا) هو الذي يقدّمه القن التابع الى السيد الاقطاعي مقابل السماح له باستغلال الأرض التي لا يملكها بينما الأجر العيني -الطبيعي ( قد يكون الخمس ) هو ما يحصل عليه مياوم زراعي يعمل في أرض بورجوازي زراعي في ظروف متخلفة زراعيا ونقديّا بحيث يحصل المياوم الزراعي على خمس المحصول (أو سبع أو عشر أيضا) الذي يحصده أو يجنيه أو خمس مواليد القطيع الذي يرعاه وهو عامل زراعي حرّ من التبعية الشخصية لمالك الأرض ولكنه يقبل بأجر طبيعي - عيني - بسبب تخلف الرأسمالية وخروجها بالكاد مما قبلها من اقتصاد.

ب- بين الريع النقدي والأجر النقدي : يمكن أن تكون العلاقة الانتاجية شبه-اقطاعية فعلا ومع ذلك يدفع الريع نقدا في البلدان التي تطورت فيها المبادلات النقدية بشرط انطباق علاقة الاقطاع على العلاقة الشغلية بين فلاح لا يملك أرضا واقطاعي يملكها مع دفع الريوع نقدا بعد بيعها .وهذا الشكل انتقالي عادة لأنه أقرب الى الرأسمالية. أمّا الأجر النقدي فهو معروف: سعر قوة العمل للعامل. وفي تونس التي تهمّنا أصبح الريع النقدي موجودا عبر عملية كراء الأرض لاستخدامها من قبل مؤسسات عائلية-لا تشغل عمالا- وأخرى رأسمالية تشغل عمالا زراعيين خاصة في الزراعات المكثفة -الخضرو الغلال خاصة- وبالتالي فالريع هنا يمكن أن يكون ريعا رأسماليا (يدفع كمعلوم كراء للأرض وهو قد لا يمثل الخمس طبعا ) ويرتبط بتشغيل عمال زراعيين في الضيعات المتوسطة والكبيرة.

وهكذا،باختصار، فان أطروحة الشبه-شبه انتهت ليس لأنها خاطئة نظريا -رغم أن بعض أصحابها يخلطون بعض الأمور النظرية فعلا- بل لأن المجتمع تحوّل -اذا لم نستسغ فعل تطوّر- ولكن في طريق التبعية الرأسمالية.وان الاقتناع براسمالية المجتمع التابعة لا تعني انعدام الثورية إلا بالنسبة إلى الرأسماليين التابعين .ولكن في المقابل لا تحمي مقولة الشبه-شبه من انعدام الثورية لان المسالة أكبر من ان تكون مسالة قراءة اقتصادية.

خاتمة: المشكلة الأكبر لليسار التونسي !

انّ المشكلة الأكبر في تونس بالنسبة الى اليسار - في علاقة بالنقطتين المندرجتين في العنوان :

- طبيعة الشخصية وطبيعة المجتمع - تتمثل في ما يلي :

أ- عدم قدرة اليسار على خلق مناضل يساري يقطع نسبيا مع خصائص 'الشخصية التونسية" السلبية -مثل البذاءة والرثاثة ...- ويطور الايجابية حتى لا يتماهي مع أنصار الحداثة الرثة مما جعل البديل المحافظ يقوى كثيرا .

ب-عدم تأثير دعاة الرأسمالي تابع في العمال وعدم تاثير دعاة الشبه-شبه في الفلاحين واكتفاؤهم جميعا بالتلامذة والطلبة والموظفين وتمترسهم في الحركة النقابية دون قدرة على تطوير هم لا لحركة عمالية و لا لحركة فلاحية حقيقيتين .

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات